تفاهة الشر

احتكم فريقا السلفادور والهندوراس الى مباراة فاصلة لحسم صاحب بطاقة التأهل لمونديال 1970 في المكسيك والتي انتهت لصالح السلفادور برأسية اللاعب (بيبو) في الوقت القاتل. كان هذا الهدف إشارة إعلان الحرب بين البلدين التي استمرت لأربعة أيام متواصلة. يوثق كتاب المائة ساعة لـ هاغيدورن حرب كرة القدم تلك التي أودت بثلاثة آلاف قتيل وتبعات اقتصادية واجتماعية وإنسانية ما تزال آثارها لليوم بين البلدين ويؤول جذور المأساة الى ما هو أعمق من المستديرة على جنونها.اضافة اعلان
فخلاصة المراجعة لتلك الحرب التي اشتعلت مع صافرة نهاية المباراة اقتصادية تم تغذيتها بكراهية إعلامية؛ حيث سبق هذه الحرب تراكمات بين الجارتين أسستها حركة العمالة من السلفادور للهندوراس بحثا عن الرزق نظراً لتوفر مساحة جغرافية زراعية أكبر، فشكل ذلك حالة كراهية اجتماعية نتيجة شعور الهندوراسيين بفقد أعمالهم لصالح المهاجرين في ظل نظام اقطاعي يحكم الجارتين، وببساطة تم ترك هذه الكراهية وتغذيتها حتى ابتلعت كلا الشعبين.
ولكن هل يمكن دوماً إرجاع كل هذه الكراهية المدمرة لجذور إيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية، ترى حنا ارندت الكاتبة الألمانية المشهد من زاوية مختلفة، فبعد متابعتها لصالح جريدة النيويوركر في العام 1961 لمحاكمة أيخمان قائد جهاز الجستابو النازي المسؤول عن الهولوكوست، وضعت نظريتها الشهيرة تحت عنوان (تفاهة الشر) وتنص فكرتها على أن هذا المجرم لم يملك أي دافع لارتكاب كل تلك الفظائع سوى قناعة سطحية بأنه ينفذ واجبه ليتم ترقيته، لم يدرك أيخمان نتيجة أفعاله، بل كان يراها مجرد مهمات يجب تنفيذها، لقد جردت ارندت المجرم من البعد الذي بنى عليه دوستويفسكي رائعته الجريمة والعقاب حيث رغبة الخلاص التي تولد لحظة افتعال الجرم ببساطة، هذه الرغبة المجبولة بالندم تدفع لولادة بعد رابع لمعنى الشر، وينهي كتاب أيخمان في القدس كل هذا الفهم وينقله الى فهم مسطح بلا أي أبعاد، بالتأكيد هذا الفهم موجود ولكن لا يمكن تعميمه فبالتأكيد ليس كل المجرمين مجرد منفذي أوامر، ولكنه تحليل يجعلنا نبحث عن المخطط الذي أطلق العنان للغرائز لتحكم سلوك المجموعات محولاً الأفراد الى مجرد آلات.
ولعل أكثر من نسج رواية تستوعب سؤال المشهد السابق بحرفية هو الكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو في روايته الساعة الخامسة والعشرون، وهي رحلة شقاء لإنسان يدفع ثلاثة عشر عاما من عمره ثمناً للشر الممارس عليه بلا خطيئة، يتحول خلالها الى الإنسان الآلة في صور متناقضة مسبوكة بإبداع ينتقل فيها البطل يوهان بين شخصية الضحية والجلاد، ولكن الخلاص من الشر هذه المرة كان بالانتحار.
في عالم يملؤه الشر تصبح الكراهية مرادفا للظلام فيخشاها الأنقياء تماما كما في رواية ستيفن كينغ (الميل الأخضر) التي حولت الى واحد من أروع الأعمال السينمائية، ويظهر فيها السجين جون كوفي كمثال للخير الخالص بلا شرور والمتهم ظلماً بقتل واغتصاب طفلة ويقرر تحمل الجريمة لأنه يود الخلاص من الحياة في مشهد الإعدام الشهير الذي ينتزع القلوب لحظة رفضه وضع غطاء العينين لأنه يخاف الظلام، إنه ظلام يشابه ما حاول تصويره فيلم الخيال العلمي والفنتازيا (سيد الخواتم) لحظة انبعاث الشر في المحيط محاولاً ابتلاع الوجود، كما هو الشر المنبعث اليوم في حنايا شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث تنفث أكبر كمية كراهية متواصلة بلا توقف في عالم افتراضي يتسلل بصمت ليبتلع عالمنا، عندما طلب من الراحل برتراند راسل ترك رسالة للمستقبل رد بقوله: خلاصة الحياة الحب حكيم والكراهية حمقاء.