حرب الحرافيش

تنحدر الفئات الاجتماعية التي تشعر بالضعف والنبذ والانغلاق نحو قناعة واضحة بأنها تعيش في عالم لا يستحق الاستمرار فيه، فيتشكل في الأحياء المنسية بالاتفاق نظام صامت يقوم على فكرة (تكبير الدماغ)؛ حيث تقرر الحكومة ما تشاء ونحن نفعل ما نشاء، وكلما تصاعد الفقر وفشل التنمية تصاعد ظهور أفراد وفئات داخل هذه التجمعات السكانية تعلو على القوانين وتتسم بقدرتها على فرض الإرادة بالقوة، وسرعان ما تتحول هذه المجموعات الى مركز الإدارة والمرجعية الشعبية ضمن محيطها في ظل سطوة الخوف نتيجة تراجع دور الدولة، بمرور الوقت يتطور هذا الشكل من الهيمنة الى شكل أكثر تعقيدا لحظة تحالف المتنفذين السياسيين مع هذه الفئة لننتقل الى ما يعرف عالميا بالجريمة المنظمة التي تتميز بشبكيتها وامتدادها ونفوذها.اضافة اعلان
لا يعد ميل المجتمعات نحو كاريزما الشخصية القوية شيئا جديدا، فهو أمر تاريخي بدأ مع وجود البشرية وطريقة تبعية القطيع قبل نشوء المدن، هذا النمط القائم على فرض القوة والتوحش كان الحد الفاصل بين التمدن والتخلف في تصنيف المجتمعات البشرية؛ حيث تبدلت أسس إدارة المجتمعات لتصبح القوة إحدى أذرع الإدارة لا رأسها، وهكذا تطور البناء البشري حتى وصلنا الى نمط الحكم الحالي الذي اتفق عليه العالم بعد حروب أهلية وكونية طاحنة.
وضمن معادلة «الطبيعة تكره الفراغ» فإن تراجع دور مؤسسات أي دولة يعني بالضرورة تمدد فئات لتعبئة هذا المدى، فتستغل هذه المجموعات حالة تراجع اقتصادي وسياسي يتم فيها تغذية أفراد البيئة الحاضنة لهم بخطاب السلطة الفاسدة والعاجزة، وهو ما يشرعن دخول العصابات كبديل للسلطة ومقاوم لها في الوقت ذاته.
ففي انجلترا مثلا، صعدت شخصية روبن هود في القرون الوسطى تحت عنوان براق: (سرقة الأغنياء لصالح الفقراء)، ولكن بتتبع الحالة التاريخية نجد أن القصة كانت مرافقة للاضطرابات البريطانية الداخلية وتم استخدامها من قبل قطاع الطرق في حينها لوضع شرعية لجرائمهم، غطاء نبيل للجريمة تماما كما تبتدئ رواية الحرافيش بعد نجاة البطل عاشور من الوباء نتيجة لجوئه للجبل فيسمى بالناجي في فترة كانت تشهد غياب السلطة وعودة لقوة الذراع؛ حيث يتشكل مجتمع الفتونة فيحوز عاشور المجد كله، القوة والتواضع والعدالة والصدق، ولكن ما إن يدخل عهد الحفدة حتى تتبدل كل مفاهيم الفتونة الى قيم شيطانية؛ ظلم وإجرام واضطهاد، إنها فتنة القوة التي لا يلجمها القانون، وقديما قدم العرب المفهوم المتمرد ذاته تحت عنوان (الصعاليك) ضمن الفلسفة ذاتها؛ فقير مضطهد يتمرد على قوانين مجتمعه وينتقم، نموذج أحياه الإعلام وكرسه مؤخرا في فكرة (راس غليص).
فيما قدمت هوليوود الحالة المتمردة بطريقة جذابة يمكن متابعتها بوضوح في مثالين لا يمكن تجاهلهما؛ الأول شخصية الجوكر في (باتمان) ضمن إطار شخصية السايكوباتي الذكي المرح الذي جعل الكثيرين يتوحدون مع شخصيته الداعية لكسر كل القواعد بوحشية ودموية، وفيما بعد تم إفراد فيلم كامل نظراً لتمدد هذه الحالة مجتمعياً، والثانية في فكرة فيلم (فانديت) وقناعه الذي أصبح يرافق كل مظاهرات الأناركية حول العالم.
في عالم تحكمه خوارزميات الانترنت الموجهة، يفرض علينا فيه ما نرى تحت إطار كذبة حرية الاختيار، عالم يفرض علينا نموذج مراد علم دار والهيبة والقتلة المأجورين كأبطال ورموز، بات علينا وجوبا أن نفعل ونحدث خوارزميتنا الثقافية والإعلامية القائمة على الحق والشهامة والخير، وهي رسالة دولتنا ذاتها المتخمة بالأبطال والشهداء الذين، للأسف، خذلناهم، فكان الفراغ الذي امتلأ بنضح التيك توك، فخوارزمية قيمنا الوطنية والإنسانية وحدها القادرة على الإطاحة بمصفوفة حرافيش الديجتال.