سايكس-بيكو والدولة القُطريّة

منذ مائة عام تقريباً (1915-1916)، اجتمع الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس لاقتسام بلاد الشام والعراق، بُعَيد سقوط الدولة العثمانية، وكان ما كان من ترسيمٍ للحدود على النحو الذي نعرفه الآن. وبعد استعمارٍ سمّوهُ انتداباً، تقاسمته فرنسا وبريطانيا ودام متراوحاً بين أربعين وخمسينَ عاماً (لن ننسى الجزائر ومنطقة الخليج التي لها قصة أخرى)، تحرّرت المناطق التي صار اسمها على الخريطة وفي الواقع العراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين، وعبر تعقيدات تاريخيّة معروفة أعلنت "استقلالها" عن المستعمر الفرنسي والبريطاني، وأقامت حكمها الذاتي.

اضافة اعلان

أسوق هذه المقدّمة لأذكّرَ بالتاريخ المؤلم لهذه المنطقة التي سُمّيت فيما بعد تسميةً مريبةً هي "الشرق الأوسط"، والتي اشتعلت وتشتعلُ فيها حروبٌ شنّتها قوى متعدّدة بقيادة أميركا اليوم التي تعد بخريطة جديدة لها. فماذا نفعلُ بالخريطةِ القديمة؟

من المؤكّد أن سايكس-بيكو (التي أتى بعدها الكيان الصهيوني الاستعماري الاحتلالي) قد فرضت واقعاً جديداً بعد الاحتلال العثماني، تأكَّدت فيه الهويّة القطريّة القوميّة، وظهرت موجةٌ سياسيّةٌ قويّةٌ بقيادة عبد الناصر جعلت حلمَ الدولة العربيّة الواحدة يبدو قريبَ التحقُّق، وخصوصاً أنَّ عدداً من هذه الدول الجديدة قد أعلن هويته القوميّة العربيّة. كما ظهرت محاولات وصيغ مختلفة من الوحدة العربية كما نعلم، بين مصر وسورية والعراق والأردن وأقطار الخليج العربيّ والمغارب. وإذ كانت هذه الصيغ محاولات للتخلّصِ من آثار سايكس-بيكو، إلا أنَّ الانكسار القومي الكبير في هزيمة 1967 النكراء، قضى على معظم هذا الحلم، وباتت الأحزابُ القومية فلولاً لا وزن لها، مما فتح الباب على وسعه لفكرة أخرى تقوم على "الجامعة الإسلامية". وبدعمٍ كلّيٍّ من الغرب الأوروبي والأميركي رُتِّبَت أنظمةٌ عربية لخدمة هذا المشروع الذي كان مبرِّرُه خلقَ جبهة يمينيةٍ مواليةٍ للرأسماليّة الغربيّة على حدود الاتحاد السوفياتي، وكانت ثورة الخميني بترتيب معروف لتعزيز الجبهة أمام طموح الاتحاد السوفييتي في التمدد والانتشار.

وبدلَ التوحد العربيّ على أساس قوميّ مطوَّر يحترم التنوع، غُذِّيَت المجتمعات العربيّة، بل ومجتمعات ما يسمى بالدول الإسلامية، وقويت شوكةُ الإخوان المسلمين والسلفيّة بأطيافها، وجميعها تجتمع على فكرة التوحد تحت شعار الخلافة الإسلاميّة. أي أنها تسعى إلى حل الدولة القطريّة لحساب دولة عالميّة الطابع، مما يفسّر العلاقات الحميمية بين حركة الإخوان ورعاة السلفيات وبين المجتمعات والتجمعات الإسلامية في الشرق والغرب، ومما يفسِّرُ أسلمة المجتمعات العربيّة.

إذن؛ باتت الدولة القطرية التي أوجدتها سايكس-بيكو، مهدّدةً لا بالتوحّد العربي بجميع مكوناته الإثنية، بل بالتوحد العالمي تحت مسمّى أو مضمون "الخلافة الإسلامية". باتت سايكس-بيكو (يا ما أحلاها!) مقابل هذا التغوّل الغربي الرأسمالي الذي جعل من الحركات الإسلاموية مخلب نمرٍ لتمزيق الدول القطرية وإعادة رسمها وتسليمها للإسلام السياسي.

وعليه، فإنَّ مهاجمة مُخرَجات سايكس-بيكو الآن من السياسيين والنُّخَب، لأيِّ أسبابٍ كانت، والعمل على إضعاف الدولة القطريّة، والاستهتار بفكرة حدودها، إنما هو استسلامٌ واعٍ أو غير واعٍ، لمشروع الغرب والإسلام السياسيّ. فالطريقُ إلى وحدة الشعوب الناطقة بالعربية لن يكون عبر إثقال هذه الدولة بأعباء وأدبيّات تتجاوز الواقع وتنفخُ في الأوهام!

دعونا لا نفقد الأمل!