سمير سعادة.. وداعا!

للأسف، رحل أبو مازن عن الدنيا قبل أن يعود إلى "بيت محسير"، بلدته المحتلة في فلسطين. ولا بد أن يكون قد تفاعل، بطريقته المهتمة بالتفاصيل، مع تباشير التحرير والعودة التي تجلبها سواعد المقاومين في غزة، وفكر بكم كان محقًا في الإصرار على حتمية الانتصار.

اضافة اعلان


أتذكر هذا بالتحديد لأن فلسطين، في سياقها القومي العربي كما رآها دائمًا، كانت حاضرة دائمًا في أحاديثه، مهما كان موضوع الحديث. كانت الصلة تولد بطريقة ما، كما ينبغي لفلسطيني لم يستطع أبدًا أن يخرج من الإحاطة الحتمية للخبرة الفلسطينية بحياتنا كلاجئين.


تعرف صحيفة "الغد" سمير عياد سعادة، أبو مازن، الذي أدار قسم التدقيق فيها منذ صدور عددها الأول ولوقت طويل إلى أن تقاعد. لم يكن من الصحفيين الذين تظهر أسماؤهم على الصفحات، لكنّ محتوى الصحيفة كان يمر عليه ويخرج من بين يديه.

 

وكان المرجع الموثوق عندما يَشكل على أحد شاغل لغوي، لكنه كان فوق ذلك المُراجع المثقف، الذي يلتقط المغالطات والسقطات عندما يتعلق الأمر بمنطق المادة وبياناتها. وبذلك كان محرّرًا ومستشارًا، لا يبخل بالإشارة إلى الأخطاء واقتراح التصحيحات، كما ينبغي لمُراجع محترف يمنح الطمأنينة للمحررين. 


بالنسبة لي، كان أبو مازن أكثر من زميل عمل في الصحيفة. كان صديقًا أثيرًا ومصدرًا للمعرفة. كان من أولئك الذين يُملون وُجهات الحديث دائمًا نحو الجديّة وتحميله بالمعلومات. لم يكُن يتحدث عن الأشياء في معزل عن السياقات. وقد أسعفته ذاكرة ذهبية في حفظ الأسماء والأحداث والتواريخ في تحويل التبادلات العادية إلى سرديات موثقة. إذا حدثك عن تجربته التدريسية في الكويت، فستعرف منه عن أحوال البلد، ومجتمعه، واتجاهاته السياسية وتفاعلاته القومية طوال الفترة التي قضاها هناك. وإذا حدثك عن حادث شخصي أيام الطفولة في فلسطين، فستعرف عن الحركات والتوجهات في فلسطين بالأسماء والأحداث، وعن البلدات والقرى وجغرافيتها وطباعها ورجالاتها. ومهما كان موضوع الحديث، فإنك تحصل دائمًا على قصة مما يُفترض أن لا يكون قصة. ولذلك، في مناسبات لا تُعد، كنتُ أقول له: شكرًا أبو مازن، لقد أهديتني مقالًا.


وكنتُ ألومه. لم يكن يتردد لحظة في إعلان مواقفه التي تكون في كثير من الأحيان مخالفة للموقف البراغماتي السائد المحسوب، مباشرة في وجه أصحابه.

 

كنتُ أحاول أن أقنعه بأن النقاش حين يكون الطرف الآخر متشنجًا وغير منفتح مضيعة للوقت، وربما يجلب له العداء. لكنه كان دائمًا هو، منطلقًا من إيمان عميق بالعروبة كهوية وسبيل.


على الصعيد الإنساني، لم يكُن ليحبّ أن أكشف ما كان يخفيه، ولذلك لن أذهب إلى التفصيل في عطاء لا حد له، كنتُ أعرف عنه غالبًا لضرورات عملية، مثل مرافقته إلى حيث يفعل ما يفعل برضى نفس عجيب. ولم يكن ذلك عن سعة حال بقدر ما هو عن سعة قلب. وكان ما يبدو صعبًا على الآخرين من الإيثار سهلاً عليه، لأنه شيء من طبيعته التي لا تدخر شيئًا من الممكن عندما تلزم المساعدة. وفي المقابل، لم يقبل بأن تكون لأحد عليه يد.


وقد قصّرتُ، مثلما يكتشف أغلبنا أنهم فعلوا بعد أن يرحل الأصدقاء. ولم يكن أبو مازن من الذين يحسبون عليك بالواحدة، فيتواصل إذا تواصلت ويقطعك إذا انقطعت. كان يبادر، من وعي متسامح مع ظروف الآخرين، فيسأل عن الجميع بلا موقف سوى الطيبة النادرة. وكنتُ شخصيًا أعتمد دائمًا على معرفته بتقديري العالي له.


إذا كان الراحلون يعرفون أحوال الباقين، فسوف يعرف أبو مازن كم هم الذين يفتقدونه الآن، وبالتأكيد كل الذين زاملوه في عمله الصحفي، حيث ترك مكانًا يصعب أن يشغله غيره، سواء على صعيد معرفي أو إنساني.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا