سوق "البسطات" السياسية

ظل المشتغلون بالسياسة يتهكمون من تردي مستوى العمل السياسي ومن تفتت أدواته، باستخدام مفردة "دكاكين" لوصف حالة تكاثر الأحزاب والتجمعات والهيئات السياسية. والتشبيه منطقي إلى حد ما، فكما هي الحال في عالم الأسواق والدكاكين عموماً، فإن الاشتغال بالسياسة عادة ما يتخذ شكل ترخيص حزب جديد أو هيئة أو منظمة جديدة، أو انفصال عن الشركاء والشروع بنشاط سياسي خاص. وهذا بالطبع ما يحصل في كل الأوساط السياسية المعارضة والموالية وفي اليمين واليسار والإسلاميين... إلخ. نحن حاليا في مرحلة تشير إلى انتهاء عصر الدكاكين التي قد تتحول إلى موضة قديمة. ومن المرجح أننا دخلنا مرحلة "البسطات السياسية"، وهي صيغة تحترم التنوع والاختلاف أكثر من سابقتها لأن البسطات متحررة نسبيا من شروط "الدكاكين". اسمحوا لي بالاستدراك قليلاً هنا للتأكيد على أن استخدام مفردة "البسطات السياسية" لا يعني الإدانة، بقدر ما يعني الوصف المجرد، على الأقل لأني متخصص بالبسطات فعلاً منذ أكثر من 20 عاماً كجزء من اشتغالي بالقطاع غير الرسمي، أو قطاع التوظيف الذاتي. والبسطات أيها الإخوة عالم تصبح له مع الزمن تقاليده وأخلاقياته التي تستحق التمعن والاحترام أحياناً. يعود بروز ظاهرة البسطات السياسية في الأردن إلى سنوات الاحتجاجات الأخيرة، أي منذ حوالي سبع سنين، ولكنها بدأت حينها مترافقة مع الدكاكين، أو من صنع الدكاكين، وهي الآن على وشك السيطرة على السوق. على سبيل المثال؛ في اعتصامات الرابع هذه المرة وفي المرة التي سبقتها (في رمضان الماضي) وفي اعتصام مجمع النقابات، يوم الاضراب الشهير، كنا أمام سوق بسطات سياسية كبير. كلٌ ينادي على بضاعته؛ معارضون ونصف معارضين من شتى الأصناف، وهناك بسطات تابعة لهذا التنظيم أو تلك الهيئة أو الدائرة أو ذاك الجهاز أو بعض منظمات المجتمع المدني، أو حتى لبعض الشركات الصناعية والتجارية ورجال الأعمال، كما حصل أمام مجمع النقابات. بعض المنادين يقوم بذلك بصوت عال، وبعضهم يعرض ما لديه بهدوء لدائرة محدودة من الجمهور، وكما يحصل في البسطات العادية، فإن أصحاب المحلات الرسمية قد يقيمون بسطاتهم الخاصة مستغلين نشاط السوق. وهناك جمهور يتنقل بين المنادين، يقف عند هذا ثم ينتقل إلى آخر، قد يكتفي بتقليب البضاعة وقد يشتري شيئاً، ولكن هناك زبائن سيئون، يحضرون كل مرة يتجولون بين البسطات ولكنهم أبدا لا يشترون، وهؤلاء يسمون في عالم البسطات "زبائن اثبات وجود"، وأخشى أن أكون أحدهم. الحكومة والموالون لها، دخلت إلى عالم البسطات بقوة، وكذلك فعل سياسيون من قادة وأنصار حكومات سابقة، رؤساء وزارات سابقون، وشخصيات مسؤولة عاملة ومتقاعدة، أقامت بسطات خاصة. العاملون في البسطات وفي مجمل القطاع غير الرسمي يتميزون بمرونة عالية في الانتقال بين المواقع وفي تغيير صنف البضاعة وفي استثمار آخر تطورات أساليب البيع، وقد تحول بعضهم مؤخراً إلى البيع من المنزل عبر الانترنت، وهذا ما يحصل تماماً في "بسطات السياسة"، فقد تطور بعضها إلى العمل من البيت، وقد وفرت التكنولوجيا ذلك بسهولة، فأنت اليوم تستطيع أن تبيع بضاعتك في الاعتصامات وعند الحكومة، من وضعية الجلوس في البيت مع شاشة هاتفك، بل لم تعد هناك ضرورة لأن يكون بيتك في عمان أو في الأردن، فالبسطة السياسية الحديثة يمكن أن تشتغل من أي مكان في العالم، وتجد لها زبائن في الرابع وفي البلد عموماً. لا يتوقف التشابه هنا، ففي بسطات السياسة يوجد "تجار جملة" أيضاً، يعملون كمصادر لـ"البضاعة السياسية"، أبرزهم الآن: الحكومة والمعارضة والأجهزة والأحزاب ومراكز القوى والجهات الدولية الممولة والوكلاء... ودائما تحت شعار: "قَرّب وقَلّب".اضافة اعلان