لعنة الموارد

في السودان غرق ما يقارب مائة ألف منزل بسبب ارتفاع مناسيب مياه النيل نتيجة الفيضانات التي داهمت ست عشرة ولاية في موجة مطرية غير مسبوقة منذ أكثر من مائة عام، تركت هذه السيول الهادرة أكثر من نصف مليون مشرد ومئات القتلى والمصابين، فاجعة انسانية كان مركزها جزيرة توتي حيث لقاء النيلين الأزرق والأبيض.اضافة اعلان
فخلال موسم الامطار الممتد لثلاث أشهر والذي يبدأ جغرافياً من على الهضبة الأثيوبية، دفعت موجة امطار غزيرة الى ارتفاع النهر لما يقارب العشرين مترا، امر معهود ومتوقع ويحدث منذ وجد النيل، لكن المعضلة ليست بالأمطار وشدة سقوطها بل الخلل بمن وهبت لهم هذه المنحة وهو ما يخضع لنظرية لعنة المصادر حيث تهبك الطبيعة موارد عظيمة تفشل في ادارتها وتتحول النعمة الى نقمة.
مشهد بائس يتكرر في كل دول العالم الثالث العاجز عن تخطيط حاضره، فإذا قرأنا ما حصل في السودان بشكل علمي سنجد أن هناك خللا في آلية بناء السدود باعتماد نمط السدود الصغيرة، التي ما ان داهمها الفيضان حتى انهارت، مثلما حدث في ولاية النيل الأزرق في منطقة بوط جنوب – شرق السودان من انهيار لاحد السدود الصغيرة الذي يخزن حوالي 5 ملايين متر مكعب على أحد روافد النيل الأبيض وبدل أن يصد الكارثة ضاعف من خطرها، وزاد الطين بلة عدم وجود بحيرات تصريف جانبية في محيط النهر وهو امر بدائي يمكن ان تقوم به آليات بسيطة ولا يحتاج لمشاريع عملاقة وتمويل كبير ليدفع البسطاء الثمن.
لطالما شكلت وفرة الموارد سلاحا ذا حدين ادى فشل إدارتها الى بطء في النمو الاقتصادي ونشوء أنظمة تسلطية وحروب أهلية نتيجة الفساد الممنهج والجشع الذي ينشأ بظهورها وطمع الهيمنة على اصولها.
وقد يكون لظهور الموارد نمط مرضي آخر تماما كالداء الهولندي الذي شخص بعد ظهور حقول الغاز في بحر الشمال مطلع القرن الماضي حيث تملكت الشعب الهولندي حالة من الكسل والتراخي الوظيفي وميل للإنفاق الاستهلاكي والترف، لتنتهي هذهِ الفترة من الرخاء بالاصطدام بحقيقة نضوب الآبار التي استنزفها الشعب باستهلاكهِ غير المنتج لتعرف هذه العبرة في الاقتصاد بالمرض الهولندي.
في نيجيريا مثلا يعاني السكان الفقر المتزايد رغم أن البلاد تحقق نموا اقتصاديا ممتازا وينسب ذلك ببساطة لإدارات فاشلة تعتمد على النفط فقط في مواردها ليتحول المورد الى لعنة، فنيجيريا تعد الأولى افريقياً في انتاج النفط، وذلك جعل المخططين يهملون باقي القطاعات، اليوم وبسبب هذا الفشل في التخطيط نجد ما يقارب ثلثي سكان البلد النفطي يعيشون على اقل من دولار بحسب إحصاءاتهم الوطنية.
في الأردن لدينا وفرة كبيرة بالأطباء وما تزال السياحة العلاجية احدى موارد الاقتصاد الأردني التي نحلم بتطويرها كمنتج وطني لا رأسمالي فردي، الطب اردنيا هو مورد اشتقه الأردنيون كما اشتق الأجداد مدنهم في الصخر مورد من لا شيء وبات علامة وطنية عالمية عندما حمله ابناء الجيش الأردني الى العالم كهدية من الشعب الأردني في ما عرف بالمستشفيات الميدانية ودورها الإنساني العظيم. محزن ان يجلس الاطباء والممرضون الأردنيون بلا عمل فيما نخسر حياة طفلة لأنها لم تحصل على سرير لنقص في الكوادر. انها من جديد فضيحة لعنة الموارد، ولعل اكبر فضائح لعنة الموارد محلياً هي عندما تسجل اكبر درجة حرارة في العالم على جغرافيا ارضنا في زمن يتحول فيه العالم للطاقة الشمسية ولا نزال نعاني ثمن فاتورة الكهرباء. انها ليست فقط لعنة الموارد بل لعنة الاحتكار!