هل العقل السليم في الجسم السليم؟

تُعتَبَرُ اليوم عبارات مثل "العقل السليم في الفكر السليم"، ومثل "يبكي كالنساء"، و"هذا المدير يتخبّطُ كالعميان"، و"زعماء بلا رجولة"، و"مخنثون"، من العبارات التي تتنكَّرُ لحقوق الإنسان؛ حيثُ تنفي العبارةُ الأولى العقلَ السليم عن أهل الإعاقات الجسدية، وتقطعُ بالعجز الكلّيّ لهم/ن، بينما تجعلُ العبارةُ الثانيةُ الرجلَ في مرتبةٍ أعلى من المرأة وتقصرُ البكاء (كحالةِ ضعفٍ) على النساء، والثالثةُ تجعلُ فقدانَ البصرِ رمزاً للتخبُّطِ السياسيّ أو الإداريّ، والرابعةُ تحصرُ الشجاعةَ والحكمةَ في الذكورةِ، وتنفيها عن المرأة، والخامسةُ تدينُ "التخنيث" (وهو اختلاطٌ خَلْقيٌّ في أعضاء الأنوثة والذكورة، وهو أمرٌ لا يدَ للمخنّثِ فيه) كحالةٍ من حالات الضَّعفِ البشريّ في إدارةِ شؤون الحياة. وجميعها تُوَجّهُ كإهاناتٍ وشتائمَ تجعلُ من الجندر المؤنّث ومن الإعاقات الجسديّة والتشوّهات الخَلْقيّة سبباً لأحكامٍ أخلاقيّة قاطعةٍ. وإلى ذلكَ فإن البحثَ العلميَّ أثبتَ فسادَ هذه المقولات وأمثالها، فشخصيّاتٌ عالميّةٌ معروفة أثبتت مثلاً أن العقل السليم يمكنُ أن يكون في أكثر الأبدان عجزاً؛ ولسنا بعيداً عن هيلين كيلر ولا طه حسين ولا أندريا بوتشيللي ولا ستيفن هوكنغ ولا جون ناش الذي كان جسمه سليماً ولكنّ عقله كان مريضاً ومع ذلك قدم للبشرية في الرياضات ما حاز عليه جائزة نوبل.اضافة اعلان
يندرجُ هذا النوع من الكلام والتشبيهات تحتَ بابٍ اسمه في العربيّة "الوصم" (Political Correctness)، وهي ظاهرةٌ في استخدام اللغة، وأحياناً لغة الجسد، تتمُّ فيها الإساءةُ إلى شخصٍ أو طائفةٍ من الناس بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، في أثناء إصدار أحكامٍ على شخصٍ آخر أو طائفةٍ أخرى لا يدَ لها فيما تعانيهِ أو تتصفُ به. فالهزءُ من قصار القامةِ أو طولها المُفرط، أو من الأعرجِ أو الأعور أو الأصلعِ أو السمينِ أو المختلّ أو (المتخلّف) عقليّاً، أو من اللون المختلف، أو الجندر المختلف، أو من اختلاف الميول الجنسيّة، أو شعبٍ من الشعوب، أو من إثنيةٍ من الإثنيات، أو أصحاب دينٍ من الأديان...إلخ هذه كلُّها وغيرُها كثيرٌ، تُعتَبَرُ خرقاً لحقٍّ جوهريّ في التعدّدِ والاختلاف والتنوّع، والحقّ في الاحترام.
صحيحٌ أنَّ كثيراً من هذه العبارات لا تُستَخدَمُ بقصدِ إهانةِ المشبَّه به، ولكنّها تنطوي ثقافيّاً على قدر عظيمٍ من التطاول عليه، ووضعه في موضع المسؤول أخلاقياً عن حالات الفساد البشريّ. فتسميةُ "الفستق السوداني" مثلاً بـ"فستق عبيد" لهي تحيلُ تاريخيّاً إلى العبودية التي فُرِضَتْ على سكان أواسط إفريقيا وجنوبها من أصحابِ البشرة السوداء؛ حيثُ أتانا هذا النوع من المكسّرات من تلك المناطق. ولكنَّ الاستمرار في التسمية بعد انتشار الوعي على أن جميعَ البشر أحرارٌ وهكذا ينبغي أن يظلوا، تتضمَّنُ وصماً للبشرة السمراء وربطها بالعبودية، وفي هذا إهانةٌ ما بعدها إهانة!
وليس التلميحُ إلى الوضع الاجتماعي للمرأة بأنَّها "مطلّقةٌ" أو "عانس"، إلا نوعٌ من أنواعِ الإسفافِ الأخلاقيِّ، في إدانةِ خياراتٍ أو اضطراراتٍ تتعلّقُ بالحياة الشخصيّة للمرأة، بينما لا تُوجّهُ هذه "التهم" إلى الرجل! كما أنَّ سُعارَ النقدِ الموجّهِ إلى مسؤولةٍ لأنَّها تدخّنُ أو حتى ترقص (حتى لو صحّ)، ليسَ إلا باباً من أبوابِ الإرهابِ الثقافيّ، باستخدامِ الحقّ في اقتحام الحياة الشخصيّة، واغتيال معنويّ فيما لا علاقةَ له بالعملِ العامّ، وتضييع الفرصةِ لرصد السلوك المهني للمرء المقصود.
دعونا لا نفقد الأمل!