"لسنا أرقاماً".. عن اسم الشهيد الذي لن يمتصه الموت حتماً

غزيون يكتبون "نحن لسنا أرقاماً" باللغة الإنجليزية على جدارية في القطاع- الصورة من المركز الفلسطيني للإعلام
غزيون يكتبون "نحن لسنا أرقاماً" باللغة الإنجليزية على جدارية في القطاع- الصورة من المركز الفلسطيني للإعلام

يكتب الأطفال أسماءهم على كتبهم المدرسية وقصص ماقبل النوم، على جدران ومقاعد المدرسة، فوق أسِرَّتهم وعلى مراياهم، في صدى عقولهم وألسنتهم، وربما على حوائط الشارع، كما فعلنا سابقاً في أوج شقاوتنا. 

وعلى الجانب الآخر من العالم، في فسحة بقاءٍ ضيقة تواجه جرائماً متجذّرة بعمق الثقافة الصهيونية، بمدينة الـ365 كيلو متر مربع: غزة، تُكتَب أسماء الأطفال على أطرافهم، هذه المرة ليس من باب المشاكسة الصبيانية، بل ليتسنى لعائلاتهم ولمن يقوم بتسجيل قيد الوفاة، التعرف عليهم حال ارتقائهم شهداء، بأجساد زكية مشطورة لأشلاء، تماماً كما هو الحال مع مختلف الأعمار هناك، في حرب صهيونية همجية أبت أن تضع أوزارها، أو تُعطي ولو رشفةً من كأس الهدنة والسِّلم. 

"ما تنسونا، إحنا مش أرقام"

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، يردد أبناء تلك المدينة، بجذورها العصية على الاجتثاث: "ما تنسونا، إحنا مش أرقام".

في معركة سيف القدس عام 2021، كتب الشابٌ الغزّي بلال إياد عقل: "أكثر ما يخيفني هو ذكر موتي في استهداف صهيوني كرقم ضمن الأعداد التي تزيد كل دقيقة. لست شابا عاديا، ولا رقما، استغرقت ثلاثة وعشرين عاما لأصبح كما ترون الآن، أنا لست عادياً، لي بيت، وأصدقاء، وذاكرة، والكثير من الألم". كتب بلال هذه الكلمات قبل عامين، ليُعيد نشرها قبل بضعة أيام.




وفي معركة طوفان الأقصى، وتحديداً في اليوم العاشر لاندلاعها، كتبت الشابة الغزية فاطمة مطلع قصيدة "بالأخضر كفناه" للشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، قائلة: راضية أن يُهتَف لي بعد استشهادي: "بالأخضر كفّناه بالأحمر كفّناه 
بالأبيض كفّناه بالأسود كفّناه". لكن أرجوكم تذكروا أن تلك الفتاة التي جرى تكفينها للتو ليست رقماً، بل فتاة لها اسم، تفخر بغياب صداه عن الدنيا فداءً للوطن.

اضافة اعلان


فما قدسية الاسم في حياة الإنسان الفلسطيني منذ نشأته حتى وفاته أو التحاقه بركب الشهداء البواسل؟

الاسم بأهميته المجردة 

"ما فحوى الاسم؟ ما نسميه وردة بأي اسم آخر ستكون رائحته زكية ". يتساءل ويليام شكسبير على لسان شخصية جولييت منتظراً من روميو أن يمنحها جواباً يشفي قناعاتها. لتأتي الأنثروبولوجيا بقولها الفصل: إن اسمنا لا ينفكُّ عن أنفسنا، فهو جوهر الشخص. يكفي نطق عدد قليل من الصوتيات، لتوقظ فينا لهيباً من الحب أو الكراهية، بذكريات مبهجة أو تعسة، بمشاعر واضحة كالشمس في رائعة النهار، أو فوضوية ومربكة لا رأس لها، تتعلق بالشخص الذي يحمل الاسم. 

وفي علم الأنساب، فإن الأسماء المعطاة ماهي إلّا ناقلات للتقاليد الأسرية والأصول الثقافية والأحداث التاريخية والهجرات والأفراح واتجاهات الأجيال وماضي أسلافها، وفقاً لمدونة Carin.info الفرنسية. 


قدسية الاسم في الوجود الفلسطيني

ترى فيروز سلامة، طالبة الماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت، كغيرها من أبناء شعبها الباسل، أن الفلسطينيين ليسوا مجرد أناس عابرين أو أرقام نعدّها على سلم الإحصائيات. وتضيف في تصريحها لـ"الغد": "شهداؤنا ليسوا أرقاماً، بل هم حيوات وصناع مجد وعزة. كما أن دور الشهيد ومقاومته هي جزء منا كمجتمع فلسطيني يعكس رغبتنا الجماعية في فعل الاشتباك والمواجهة"، تقول فيروز .


وتتابع: لا يقاتل الشهيد من أجل الموت إنما من أجل الحياة، لحياة كريمة نعيشها بعيداً عن حياة الاستعمار وسفك الدماء. فلا تجده يستشهد من أجل نفسه وإنما لأجل كل الفلسطينيين بشكل جمعي.

تقول فيروز إن "ذكر أسماء هؤلاء الشهداء هو ذكر لنا نحن الأحياء من بعدهم، وذكر لوجودنا ورسالة لنا ألا نعيش بوضع طبيعي في ظل استعمار يتغذى بوجوده على دمائنا، وهي معادلة يتطلَّب على الجميع إدراكها".

وتشير طالبة "بيرزيت" إلى أن دلالات الشهداء هي دلالتنا نحن الأحياء: بألا نعزل أنفسنا عن المقاومة والاشتباك والصمود كما لو أن حياتنا وحياتهم عالمان مختلفان، بل يحتم علينا أن نتذكر اسم الشهيد، ويحتم علينا كذلك أن نعيش الوجع والحقد والغضب. 

"لكن حذار من شلل الألم"! تُحذِّر فيروز وتشحذ الهمم، وتُكمل: لابد من التحرّك والمقاومة بفاعلية حتى لا يذهب دم الشهيد هدراً. "تلك الدماء التي تُكمل دمك ودم الأحياء ممن يمشون على هذه الأرض"، وفقاً لتعبيرها.


الاسم وأنسنة القصة الصحافية

تعلق الأستاذة الجامعية في تخصص الإعلام د. رشا سلامة، على جزئية أنسنة القصص الصحافية خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، قائلة "من شأن إيراد القصص الإنسانية للضحايا، وما يرتبط بحياتهم من جزئيات كالأسماء والكُنى والأحلام والأمومة والأبوة والمنجزات والصعوبات وغيرها، من شأن هذا كله أنسنة الحكاية لدى المتلقي أيا كان، وتعزيز الرسالة الإعلامية لصالح القضية الفلسطينية".

 

تستذكر سلامة حادثة إطلاق النار على المصلّين في نيوزلندا، قبل بضعة أعوام، قائلة "تعمدت رئيسة وزراء نيوزلندا آنذاك جاسيندا أرديرن ووسائل الإعلام النيوزلندية التعتيم على اسم الجاني؛ لأجل أن يكون في طي النسيان، وقد نجحت هذه الاستراتيجية فعلا".

تضيف سلامة "لأجل هذا، فلنُسقط أسماء من لا نريد لهم الخلود في الذاكرة، ونفعل عكس هذا مع من نريد أن نبقيهم في ذاكرتنا وذاكرة الإعلام، أي أن نورد أسماءهم وتفاصيل حياتهم بقدر ما نستطيع".


في هذا الصدد، تستذكر سلامة في حديثها لـ"الغد"، ما قامت به مجموعة من النشطاء في بيروت قبل بضعة أعوام، على إثر إحدى الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، حين خُلّدت أسماء الضحايا الفلسطينيين مكتوبة وتم عرضها على طول صخرة الروشة في بيروت؛ لأجل أن يغطيها الإعلام ولأجل أن تبقى حاضرة في أذهان من يمرون على المكان".


الاسم في رواية القصة الفلسطينية 

يرى الشاعر والمؤلف الأردني غازي الذيبة أن الاسم في الأدب والثقافة هو مدلول وعتبة للنص ومُعرّف ثقافي اجتماعي في حبكة الرواية والعمل المرئي.

"وفي الثقافة السياسية العلمية، أن أتعامل معك كرقم يعني أن أنفي إنسانيتك"، يقول الذيبة لـ"الغد". 

وفيما يخص السردية الاجتماعية، يرى الشاعر الأردني أن العدو الصهيوني يتعامل مع الفلسطينيين كأرقام، وهو ما توافَقَ عليه الإمبرياليون في فترات سابقة، من أجل عدم الإيحاء بوجود إنسان على هذه الأرض ضمن نظرية "أرض بلا شعب"، وأن هؤلاء الكائنات الموجودة فيها هم مجرد أعداد وليسوا بشراً، وهو ما نستدل عليه من خطاب وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، بتوصيف الفلسطينيين والعرب بأنهم "حيوانات بشرية". ويوضح الذيبة أن هذه المقولة هي ذاتها التي استخدمها الغرب الأمريكي في التعامل مع الهنود الحمر كأرقام خلال 500 عام"،

"حتى الآن نحن لا نعرف اسم شخصية لافتة أو مناضلة في ثقافة الهنود الحمر، وهم الآن يحاولون عكسها تماماً على الفلسطينيين، في غزة تحديداً"، يقول الشاعر.  


بورتريه للشهيد الفلسطيني.. "لو رحل صوته لن ترحل حناجرنا"

ولأن فؤادنا المملوء غضباً وألماً، ينبض ثأراً أيضا، قامت الشابة الفلسطينية آية صوفان بإنشاء مجموعة "group” عبر فيسبوك أسمتها "مش أرقام"، يتابعها ما يقرب الـ5000 آلاف شخص معظمهم من الغزيين، يدوّنون فيها أسماء أقاربهم ومعارفهم من الشهداء، حيث لا يتوقف نبض هذه المجموعة لأكثر من ربع ساعة؛ سرعان ما تجد وجهاً تراه حميماً كما لو أنه من صلبك، مع بطاقة تعريفية مُصغّّرة عنه حال ارتقائه.

هذه المجموعة تخيف الجلاد حتماً، فرمزيتها جلية؛ تشكيلة وجوه الشهداء، جلهم من الأطفال الأشبال، ستظل تُطاردهم في الصحو والغفو ، لتقلب دنياهم رأساً على عقب، ولتذكرهم، كما قال الشاعر الفلسطيني توفيق زياد ذات ثأر: 
".. فاقتلوني أتحدّى
واصلبوني أتحدّى
وانهبوا كسرة خبزي أتحدّى
واهدموا بيتي وخلّوه حطاما أتحدّى
وكلوني واشربوني أتحدّى".

أثناء إعداد التقرير، جرت محاولة التواصل مع مُبتكرة مجموعة "مش أرقام"، لكن الحمل الذي اتخذته على عاتقها وانشغالها بما يصلها من رسائل، عنوانها الأبرز "بورتريه لشهيد"، حال دون تمكنها من الرد علينا.




 

 

*وتالياً قائمة بأسماء الشهداء أعلنتها وزارة الصحة الفلسطينية في غزة يوم الخميس الماضي، والقائمة بازدياد.. 

 

قائمة الأسماء