الوجود الصيني في تونس: أين وصل وإلى أين يتجه؟

مقطع إنشائي من مشروع مائي بنته الصين في تونس - (أرشيفية)
مقطع إنشائي من مشروع مائي بنته الصين في تونس - (أرشيفية)
لويس دوجيت-غروس؛ وسابينا هينبرغ* – (معهد واشنطن) 6/4/2023 أدى توسط الصين، مؤخراً، في التوصل إلى اتفاق مصالحة بين السعودية وإيران إلى تأجيج المخاوف الدولية بشأن وجودها المتزايد في العالم العربي. وعلى الرغم من أن أولوية بكين في المنطقة ما تزال منطقة الخليج العربي، إلا أنها سعت أيضاً إلى توسيع وجودها في شمال أفريقيا والمشرق العربي. لكنها ما تزال تواجه تحديات في هذه المجالات، تماماً على غرار الدول الغربية. وتشكل تونس مثالاً على ذلك، فهي من ناحية تبين السبب في وجوب عدم المبالغة في تقدير تأثير الصين الفعلي في المنطقة، ومن ناحية أخرى، تسلط استراتيجية بكين الشاملة الضوء على مخاطر السماح بتدهور الوضع الديمقراطي والاقتصادي في تونس بصورة أكبر. وفي الوقت الذي يبدو فيه أن نفوذ الولايات المتحدة في تونس يتضاءل بسرعة، تعد دراسة تجربة الصين فيها مفيدة.

تاريخ العلاقات يعود إلى إنهاء الاستعمار

بدأت العلاقات التجارية الرسمية بين البلدين باتفاقية أُبرمت في العام 1958، مما جعل تونس من أوائل الدول العربية التي تقيم مثل هذه العلاقات الاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية. ومع ذلك، كانت تونس أيضاً آخر دولة في المغرب العربي تعترف بالجمهورية الشعبية. وأقامت الحكومتان علاقات دبلوماسية رسمية في العام 1964، لكن الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس بعد الاستقلال، فضل التوجه الموالي للغرب. ومع ذلك استمرت العلاقات التجارية في التطور، خاصة بعد إنشاء “اللجنة الصينية التونسية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي” في العام 1983. وتعمقت العلاقات في عهد خليفة بورقيبة، زين العابدين بن علي، الذي دعم بشكل لا لبس فيه “سياسة الصين الواحدة” (أي حجة بكين بأن تايوان هي جزء لا يتجزأ من الصين). وأطاحت الثورة في تونس في العام 2011 ببن علي وأدت إلى تباطؤ دبلوماسي مؤقت في العلاقات. لكن هذه العلاقات شرعت في غضون بضع سنوات في كسب الزخم مجدداً -على الأقل من حيث الخطابات الطموحة التي لم يتبعها التنفيذ العملي إلا بشكل متقطع فقط.

تونس في “مبادرة الحزام والطريق” الصينية

تُعد تونس شريكاً قيماً للصين بفضل موقعها في وسط ساحل شمال أفريقيا، وإمكانية وصولها إلى الأسواق الأوروبية والأفريقية، وقربها من طرق الشحن الحيوية. وقد دفع ذلك بكين إلى إدراج تونس في “مبادرة الحزام والطريق”، التي وقعت الحكومتان مذكرة تفاهم بشأنها في العام 2018. وكما هو الحال مع البلدان الأخرى في “مبادرة الحزام والطريق”، تدعي الصين بناء الشراكة استناداً إلى مبدأين رئيسيين: الأول هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتونس؛ والثاني هو الانتهازية المطلقة. ويُقصد من هذين المبدأين أن يتناقضا مع النهج الغربي من خلال تعزيز صنع القرار المباشر والسريع، إضافة إلى توفير العمالة والتمويل بتكلفة منخفضة. وأبدت بكين أيضاً رغبة قوية في الاستثمار في مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق في تونس، لكن هذه المشاريع ما تزال مجرد طموحات إلى حد كبير حتى الآن. وعلى الرغم من أن تونس تشارك في هيئات متعددة الأطراف مثل “منتدى التعاون الصيني العربي” و”منتدى التعاون الصيني الأفريقي”، إلا أن بكين ما تزال تتعامل معها في الغالب من خلال إطار ثنائي، كما هو الحال مع دول المغرب العربي الأخرى. وظل تواتر التبادلات الدبلوماسية ثابتاً نسبياً خلال العقد الماضي. ومن بين الاجتماعات الأخرى رفيعة المستوى، عقد الرئيسان قيس سعيّد وشي جين بينغ محادثات في الرياض في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. ولكن محادثاتهما جرت على هامش قمة متعددة الأطراف، وبالتالي لا تشير بالضرورة إلى تطور العلاقات. كما نشط السفراء الصينيون المتعاقبون في وسائل الإعلام التونسية، حيث سلطوا الضوء على دعم بكين للتنمية الاقتصادية في البلاد، وأشادوا بنمو التعاون الثقافي، وأكدوا الاحترام المتبادل والمساواة بين البلدين.

تنفيذ محدود

على الرغم من هذه المكاسب الدبلوماسية، اقتصر الوجود العملي لبكين في تونس إلى حد كبير على المشاريع الرمزية حتى الآن. وترسم بعض الإحصائيات صورة رائعة للوهلة الأولى -على سبيل المثال، كانت الصين ثالث أكبر مورّد للسلع الاستهلاكية لتونس اعتباراً من العام 2021، حيث بلغت الواردات السنوية 2.2 مليار دولار في ذلك العام. ومع ذلك، لم تحتل الصين سوى المرتبة الخامسة والثلاثين في قائمة الدول التي تستثمر بنشاط في تونس. ولم تكن أكثر من 12 من شركاتها ناشطة هناك في العام 2020، وبلغت استثماراتها 34 مليون دولار فقط -وهو مبلغ ضئيل مقارنة بفرنسا، التي هي أكبر مستثمر في تونس، حيث بلغت استثماراتها 2.4 مليار دولار في ذلك العام. وتتشابه بعض العقبات التي تعترض مشاريع الاستثمار والبنية التحتية الصينية مع تلك التي يواجهها المانحون والمستثمرون الغربيون. ما يزال الفساد مشكلة بارزة، كما تفتقر تونس إلى إطار قانوني للشراكات بين القطاعين العام والخاص. ويمثل العامل الأخير عقبة مباشرة أمام التنفيذ الكامل لمذكرة “مبادرة الحزام والطريق” بين تونس وبكين، ناهيك عن مشاريع الاستثمار الغربية مثل “البوابة العالمية للاتحاد الأوروبي”. لهذا السبب ولأسباب أخرى، لم تتحقق في تونس بعد مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي تشتهر بها الصين في بلدان أخرى، باستثناء عدد متواضع من المبادرات المهمة. في نيسان (إبريل) 2022، افتتحت تونس أكاديمية دبلوماسية جديدة بقيمة 23 مليون دولار تم تطويرها بتمويل صيني. وفي العام 2016، تولت بكين بناء مستشفى جامعي في صفاقس، واستكملته في العام 2020. كما يشاع أن الصين تضع نصب عينيها تطوير موانئ المياه العميقة في بنزرت والنفيضة وجرجيس، مع تحويل الأخيرة إلى منطقة تجارة حرة على الحدود الليبية. ومن شأن هذه الجهود أن تزيد من يقظة الجهات الفاعلة الغربية بالنظر إلى نمط بكين المتمثل في تمهيد الأرضية للأنشطة العسكرية من خلال الاستثمارات المدنية. ومع ذلك، لم يبدأ أي من هذه المشاريع حتى الآن. كما شهد قطاع الاستثمار التكنولوجي الذي يطرح مخاوف أمنية، تطورات إيجابية وسلبية. ما تزال شركة “هواوي” الصينية العملاقة للهواتف المحمولة تتمتع بوضع جيد في تونس، بحيث تمثل ما يقرب من 15 في المائة من السوق المحلي للهواتف الذكية. ومع ذلك، واجهت طموحات بكين في تكنولوجيا الجيل الخامس معارضة من الولايات المتحدة ومنافسة حادة من أوروبا. وخلال قمة عُقدت في جربة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أجرت شركة “اتصالات تونس” اختباراً رئيسياً لنشر الجيل الخامس بالشراكة مع شركة “إريكسون” السويدية متعددة الجنسيات، مما منح الشركة الأوروبية على ما يبدو الأسبقية على “هواوي”. وعلى نطاق أوسع، أعاقت الأزمات السياسية والاقتصادية في تونس، خلال الأعوام القليلة الماضية، التطوير المحتمل للعلاقة الثنائية، الأمر الذي استنزف قدرة الحكومة السياسية والمالية على السعي وراء مبادرات رئيسية. لذلك، تجد بكين نفسها متخلفة في المجالات الاستراتيجية الرئيسية مثل القوة الناعمة والتعاون العسكري والطاقة.

التبادل السياحي والثقافي المتواضع

شهدت تونس تزايداً سريعاً في عدد زوارها الصينيين بعد أن بدأت البلاد في منحهم الدخول بلا تأشيرة في العام 2017، وذلك بنسبة تصل إلى 10 في المائة على أساس سنوي وفقاً لبعض التقارير. لكن ذلك لم يمثل سوى نسبة منخفضة جداً من إجمالي قطاع السياحة في تونس. ففي العام 2019، على سبيل المثال، لم يدخل سوى 30 ألف سائح صيني إلى البلاد من أصل حوالي 9.4 مليون زائر. كما توسعت التبادلات الثقافية بشكل مطرد، بما في ذلك من خلال العلاقات الإعلامية والمشاريع الفنية (مثل الأحداث السينمائية) وغيرها من المبادرات. ومع ذلك، في حين تشير بيانات الاستطلاع إلى أن التونسيين لديهم تصورات إيجابية إلى حد كبير عن الصين، إلا أنهم لا يفضلون بالضرورة بكين كشريك أو يتبنون نموذجها التنموي. ولا يبدو أن أياً من جهود الصين المحلية، من حضورها الإعلامي المتزايد إلى دبلوماسية اللقاحات المكثفة التي اعتمدتها، قد أثر في تلك التصورات.

الخاتمة

لم تحقق تونس بعد كامل إمكانياتها فيما يتعلق بعلاقاتها مع الصين. وعلى الرغم من الوعود بالمرونة وعدم التدخل، لم تُستثنَ بكين من تحديات العمل بنجاح في تونس. فالشراكة الناتجة عن هذا العمل تظل ناقصة حتى بالمقارنة مع جيران تونس الذين شهدوا مستويات أعلى من الاستثمار والتجارة الصينية. وعلى وجه الخصوص، الجزائر -التي توفر الهيدروكربونات التي تحتاجها الصين وتشارك معها بعض التقارب الأيديولوجي- والتي عززت علاقاتها الثنائية على مر السنين ودخلت في شراكة استراتيجية شاملة مع بكين في العام 2014. كما أطلقت الصين مشاريع استثمارية ضخمة في المغرب، مثل تطوير مدينة طنجة للتكنولوجيا، التي يُتوقع أن تستضيف 200 شركة صينية بحلول العام 2027. أما القطاعات الوحيدة التي تتفوق فيها الجهود الصينية في تونس على تلك التي تشهدها بلدان المغرب العربي الأخرى فهي وسائل التواصل الاجتماعي والدبلوماسية العامة، مما يعكس العقبات الهيكلية الرئيسية في تونس. وحتى الرئيس سعيّد، الذي تبنى خطاباً مناهضاً للغرب بشكل متزايد بعد انتخابه في العام 2019، تجنب جعل الصين جزءاً مهماً من سياسته الخارجية الغامضة. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يتوسع النفوذ الصيني بسرعة إذا تخلفت تونس عن سداد ديونها العامة أو انهارت اقتصادياً. وكما يتضح في بعض البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، استخدمت بكين أحياناً مكانتها كملاذ أخير للإقراض لكسب النفوذ محلياً. ومع ذلك، تُظهر الدراسات أن معظم عمليات الإنقاذ الضخمة هذه حدثت في بلدان كانت فيها الصين مستثمراً كبيراً فعلاً، الأمر الذي لا ينطبق على تونس. وإضافة إلى ذلك، حثت بكين الحكومة التونسية علناً على العمل مع “صندوق النقد الدولي” لتأمين حزمة قروض كانت معلقة منذ تشرين الأول (أكتوبر)، مما يشير إلى أنها تفضل عدم التصرف كمقرض طارئ في هذه الحالة. لطالما كانت الولايات المتحدة شريكاً قديماً لتونس، وبالتالي يمكنها المساهمة في تنميتها من خلال مواصلة التركيز على استعادة مسارها الديمقراطي واستقرارها الاقتصادي على المدى الطويل. وكما يُظهر عرض “إريكسون” المعني بتكنولوجيا الجيل الخامس، تتمثل إحدى أفضل الطرق لتنافس الولايات المتحدة وأوروبا مع الصين بتقديم بدائل في القطاعات التي تطرح فيها اختراقات بكين إشكالية كبيرة. وفي حالات أخرى، يجب أن يحاول أصحاب المصلحة الغربيون استكمال الاستثمارات الصينية والتركيز على القطاعات التي يكونون فيها أكثر تنافسية، مثل قطاع الخدمات. *لويس دوجيت-غروس: زميل زائر في معهد واشنطن ودبلوماسي في “الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية”. *سابينا هينبرغ: “زميلة سوريف” في المعهد ومؤلفة دراسته الأخيرة “المجتمع المدني في تونس: إعادة ضبط التوقعات”. اقرأ أيضا في ترجمات:اضافة اعلان