الولايات المتحدة "لا غنى عنها" في خلق عدم الاستقرار فحسب‏

جنود أميركيون يلوحون لزملائهم بينما يعبرون من العراق إلى الكويت في آخر قافلة عسكرية غادرت العراق، 2011 – (المصدر)
جنود أميركيون يلوحون لزملائهم بينما يعبرون من العراق إلى الكويت في آخر قافلة عسكرية غادرت العراق، 2011 – (المصدر)

أناتول ليفين‏* - (كومون دريمز) 2023/10/25
طوال الأعوام الثلاثين الماضية، لم ينجح حتى جهد أميركي واحد مفيد للسلام في منطقة الشرق الأوسط؛ بل إن القليل جدا من الجهد بُذل في هذا الشأن من الأساس.

اضافة اعلان

 

وأكثر من ذلك، لم تفِ الولايات المتحدة حتى بالدور الإيجابي الأساسي الذي ينبغي أن تلعبه أي قوة مهيمنة: توفير الاستقرار.
*   *   *
‏في ‏‏خطابه‏‏ الأخير الذي تحدث فيه عن الحربين في غزة وأوكرانيا وتورط الولايات المتحدة في كليهما، اقتبس الرئيس بايدن ‏‏العبارة‏‏ الشهيرة لوزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، حين قالت إن أميركا هي "الأمة التي لا غنى عنها".

 

هذا هو الاعتقاد الذي تعيش وتعمل به المؤسسة الخارجية والأمنية الأميركية في حقيقة الأمر.


كما أظهر خطاب بايدن، تشكل هذه الفكرة إحدى الطرق التي تبرر بها المؤسسة للمواطنين الأميركيين التضحيات التي يطلب منهم تقديمها من أجل خاطر تفوق الولايات المتحدة.

 

وهي أيضًا الطريقة التي يعفي بها أعضاء هذه الفقاعة أنفسهم من مشاركتهم في ارتكاب الجرائم والأخطاء الأميركية.

 

فمهما كانت أنشطتهم وأخطاؤهم مروعة، يظل من الممكن أن يلتمسوا العذر إذا حدث ذلك كجزء من مهمة أميركا "التي لا غنى عنها" والمتمثلة في قيادة العالم نحو "الحرية" و"الديمقراطية".‏


لكنّ من الضروري أن نسأل: لماذا لا غنى عنها؟ لا تستطيع الادعاءات الفارغة عن "النظام المستند إلى القواعد" أن تجيب عن هذا السؤال. في الشرق الأوسط الكبير، يجب أن تكون الإجابة واضحة.

 

وسوف أفترضُ أن قوة مهيمنة مختلفة ربما كانت لتحدث قدرًا أكبر من الفوضى في المنطقة، وحتى بتكلفة أكبر لنفسها مما نجحت الولايات المتحدة في فعله على مدى السنوات الثلاثين الماضية، لكن تلك القوة الأخرى كانت ستبذل بعض الجهد الجاد حقا في هذه المهمة.

 

كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان غياب قوة عظمى مهيمنة عن المنطقة يمكن أن يجعل الأمور أسوأ من الأساس.‏


خلال كل هذا الوقت، لم ينجح حتى جهد أميركي واحد مفيد للسلام في المنطقة؛ بل إن القليل جدا من الجهد تمت محاولته. وأكثر من ذلك، لم تفِ الولايات المتحدة حتى بالدور الإيجابي الأساسي لأي قوة مهيمنة: توفير الاستقرار. 


‏بدلاً من ذلك، تصرفت في الكثير من الأحيان كقوة للاضطراب والفوضى: من خلال غزو العراق، وبالتالي تمكين انفجار التطرف الإسلامي السني الذي استمر في لعب دور مروع في سورية أيضًا؛ من خلال اتباع استراتيجية مصابة بجنون العظمة لبناء دولة مدفوع من الخارج في أفغانستان على مدى 20 عامًا، في تحد لكل واحد من دروس التاريخ الأفغاني؛ من خلال تدمير الدولة الليبية، وبالتالي إغراق البلد في حرب أهلية لا تنتهي، وزعزعة استقرار قسم كبير من شمال أفريقيا، وتمكين تدفق المهاجرين إلى أوروبا؛ من خلال التدمير المتكرر -أو تجاهل احتمالات التوصل إلى اتفاق معقول مع إيران؛ والأخطر من ذلك كله، من خلال رفض تبني نهج عادل حتى من بعيد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والفشل خلال الجزء الأكبر من السنوات الثلاثين الماضية في بذل أي جهد جاد للتوصل إلى تسوية.‏


‏على مدى الجيل الماضي، غضت الإدارات الأميركية المتعاقبة الطرف -ليس بينما قتلت حكومات الليكود ‏‏ببطء‏‏ "حل الدولتين" وأذكت الغضب الفلسطيني والعربي بمواصلة سياستها الاستيطانية فحسب، ولكن بينما ساعد رئيس الوزراء نتنياهو عمدًا على بناء حركة‏‏ "حماس" كقوة أرادها أن تكون الضد لمنظمة التحرير الفلسطينية، حتى لا يضطر إلى التفاوض بجدية مع المنظمة.


والآن، أثبتت هذه الاستراتيجية أنها كارثية على إسرائيل نفسها، وقد تم تنفيذها من دون أي اعتبار على الإطلاق لمصالح الولايات المتحدة أو حلفائها الأوروبيين في مواجهة التشدد الإسلامي.‏


‏وماذا استفاد الشعب الأميركي نفسه من هذا؟ الجواب: لا شيء على الإطلاق؛ في حين يمكن ‏‏احتساب الخسائر بدقة: قتل أكثر من 15.000 جندي ومتعاقد أميركي في أفغانستان والعراق؛ أكثر من 50.000 جريح، غالبًا ما يعانون من إعاقات مدى الحياة؛ أكثر من 30.000 حالة انتحار بين قدامى المحاربين؛ 2.996 قتيلاً مدنيًا في 9/11، الهجوم الذي تبناه تنظيم القاعدة انتقامًا لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ وتم إنفاق حوالي 8 تريليونات دولار لاحقا في "الحرب العالمية على الإرهاب".‏


ولم يكن سجل الولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم كارثيا إلى هذا الحد، لكنه لم يبرر حتى من بعيد الادعاءات بضرورة تفوق الولايات المتحدة. كان المجال الوحيد الذي بدا فيه هذا صحيحا إلى حد كبير هو في أوروبا.

 

في الحرب العالمية الثانية وحقبة "الحرب الباردة"، حررت الولايات المتحدة أوروبا الغربية ودافعت عن الديمقراطية هناك، بينما ارتدَت في بقية العالم رداء الاستعمار الأوروبي وحلت محله.


‏بعد الحرب الباردة، رحب سكان أوروبا الشرقية بصدق بحماية الولايات المتحدة -على الرغم من أن ادعاء بايدن بأنه إذا لم يتم إيقاف بوتين في أوكرانيا فإنه سيغزو بولندا، لا أساس له من الصحة.

 

إن روسيا لا تملك الرغبة ولا القدرة على القيام بذلك. وعلى أي حال، إذا لم تكن عضوية بولندا أو غيرها في "الناتو" رادعاً كافياً، فما الهدف من عرض عضوية الناتو على أوكرانيا؟‏


‏خارج أوروبا، كانت المنطقة الوحيدة التي يمكن القول حقا إن الولايات المتحدة لعبت فيها دورا إيجابيا إلى حد كبير حتى الآن هي شرق آسيا (باستثناء حرب فيتنام بالتأكيد)، وللسبب نفسه: أن اليابان وكوريا الجنوبية ترحبان بالتحالف مع الولايات المتحدة. وفي حين أن دولاً أخرى، مثل الفلبين، ترغب في الموازنة بين أميركا والصين، فإنها لا ترغب في مغادرة أميركا.

 

ومع ذلك، يتطلب هذا الدور وجودا أميركيا، وليس تفوقا أميركيا. وبما أن الصين لا تستطيع غزو اليابان وكوريا الجنوبية -ناهيك عن أستراليا- فإن بوسع الولايات المتحدة أن تقف بشكل مناسب على الجانب الدفاعي خلف أنظمة تحالفها الحالية، بينما تتقاسم النفوذ في أماكن أخرى مع بكين.‏


‏أما بالنسبة لأفريقيا، فليس لدى الدول هناك صراعات مع بعضها بعضا يتعين على أميركا السيطرة عليها أو التوسط فيها.

 

إن مشاكل أفريقيا داخلية، ولم تفعل الولايات المتحدة سوى القليل جدا للمساعدة منذ 9/11 والحرب العالمية على الإرهاب.

 

وكانت الزيادة الأخيرة في اهتمام الولايات المتحدة بأفريقيا في الأساس رد فعل على الحصة التجارية المتنامية لروسيا والصين هناك.‏


‏لعل الأغرب والأكثر إثارة للدهشة من كل شيء آخر هو دور الولايات المتحدة في فنائها الخلفي، في المكسيك وأميركا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي، التي تؤثر مشاكلها حقا على سكان الولايات المتحدة.

 

كما هو الحال في أفريقيا، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى قمع صراعات محلية بين الدول، لأن هذه الصراعات توقفت منذ فترة طويلة.

 

والتهديدات هنا، مرة أخرى، داخلية، لكنها مدفوعة أيضًا إلى حد كبير بالطلب الكبير على المخدرات غير المشروعة في الولايات المتحدة.

 

وكانت إحدى نتائج الانحلال الداخلي الذي تشهده هذه البلدان هي التدفق الهائل للمهاجرين إلى الولايات المتحدة، مما تسبب في رد فعل سلبي وخلاف سياسي في أميركا نفسها.‏


في مواجهة هذا التهديد، والقلق بشأن مصالح المواطنين الأميركيين، ربما يُفترض في القوة المهيمنة الأقليمية أن تعطي الأولوية لهذه المنطقة وتكرس موارد جدية لتنميتها.

 

وسيكون هذا أيضًا متناغمًا مع "السياسة الخارجية للطبقة الوسطى" التي ‏‏وعد بها‏‏ بايدن بانتهاجها خلال حملته الانتخابية.‏

 

في واقع الأمر، كانت ‏‏الأرقام المقارنة‏‏ للمساعدات الأميركية متنافرة إلى حد مدهش.

 

فقد بلغ إجمالي مساعدات التنمية الأميركية للمكسيك وكل أميركا الوسطى منذ العام 2001 نحو 12.21 مليار دولار، مقارنة مع 64.8 مليار دولار مُنحت لإسرائيل و32.8 مليار دولار منحت لمصر.

 

حتى جورجيا تلقت ما يقرب من ضعف المساعدات التي تلقتها المكسيك (3.9 مليار دولار مقابل 2.1 مليار دولار) -وتقع جورجيا على بعد 6.000 ميل من شواطئ الولايات المتحدة مع عدد سكان يقل عن واحد إلى ثلاثين من عدد سكان المكسيك. 

 


‏في مواجهة المشاكل التي تتدفق من المكسيك إلى داخل الولايات المتحدة، يدعو بعض السياسيين الجمهوريين البارزين الآن -ليس إلى تقديم المزيد من المساعدة، وإنما إلى ‏‏نشر‏‏ الجيش الأميركي في المكسيك لمحاربة تجار المخدرات -وهي فكرة مجنونة تكشف عن الإفلاس الأخلاقي والعملي لتفوق الولايات المتحدة في قارتها الخاصة.‏


‏كما يكشف إهمال جيران أميركا في الجنوب شيئًا آخر عن تفوق الولايات المتحدة: أنه مهما كانت مشاكل المنطقة، فإن الولايات المتحدة لا تنخرط إلا إذا رأت خطرا حقيقيا أو مزعوما من أن تكون هناك قوة منافسة تبدي اهتماما.

 

ويمكن أن يسمى هذا النهج بـ"الكلب في مذود" الذي ارتقى إلى مرتبة مبدأ استراتيجي أساسي.

 

وقد تم تلخيص هذه الفكرة جيدًا في ‏‏مقال‏‏ لسوزان مالوني من "معهد بروكينغز" حول المحاولة السابقة -والكارثية- التي بذلتها إدارة بايدن للانسحاب جزئيًا من الشرق الأوسط من دون حل المشاكل الأساسية هناك. وكتبت مالوني:‏
‏"لقد اجترح البيت الأبيض استراتيجية خروج مبتكرة، محاولا التوسط في إقامة توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط يكون من شأنه أن يسمح لواشنطن بتقليص وجودها واهتمامها مع ضمان عدم ملء بكين للفراغ".‏


‏إذا كانت الولايات المتحدة تريد حقا الانسحاب من الشرق الأوسط، فعليها أن ترحب بالدول الأخرى التي تحاول لعب دور إيجابي هناك -كما فعلت الصين في جهد تعزيز الانفراج بين إيران والمملكة العربية السعودية.‏


‏كما أن السعي إلى التفوق العالمي يفسد الأميركيين أنفسهم فكريا وأخلاقيا. إن تبرير تكاليفه وتضحياته للأميركيين العاديين يتطلب من ناحية مزاعم مبالغ فيها إلى حد كبير بأنه يقوم بتعزيز الديمقراطية، ومن ناحية أخرى مبالغة هائلة في تصوير كل من تهديد الدول الأخرى وشرها.

 

والنتيجة هي خطاب عام يشبه في كثير من الأحيان غذاء الأطفال المبهر بالسيانيد -حيث البهار هو لغة "أميركا التي تنشر الحرية"، والسم هو عدم الثقة في البلدان الأخرى وشعوبها. ‏


حتى لو كان تفوق عالمي للولايات المتحدة ناجحا، إن لم يكن "لا غنى عنه"، ممكنا من حيث المبدأ، فإنه لا يمكن أن يكون مستندا إلى أساس فاسد ومُفسد مثل هذا.‏

‏*أناتول ليفين Anatol Lieven: أستاذ في كلية الشؤون الدولية بجامعة جورجتاون في قطر، وأستاذ زائر في قسم دراسات الحرب في كلية كينجز كوليدج في لندن، وزميل أقدم في "مؤسسة أميركا الجديدة" في واشنطن العاصمة.

 

وهو مؤلف كتاب "باكستان: بلد صعب". أمضى الجزء الأول من حياته المهنية كصحفي في أفغانستان وباكستان والاتحاد السوفياتي السابق.‏


*نشر هذا المقال تحت عنوان: The US Has Only Been 'Indispensible' in Creating

Instability

 

اقرأ المزيد في ترجمات