وسائل الإعلام تتجاهل تماما دور "الناتو" الحربي في الفوضى الليبية

‏عمال الإنقاذ وأقارب الضحايا ينصبون خياما أمام المباني التي دمرها الفيضان في درنة، ليبيا، 18 سبتمبر 2023 - (أرشيفية)
‏عمال الإنقاذ وأقارب الضحايا ينصبون خياما أمام المباني التي دمرها الفيضان في درنة، ليبيا، 18 سبتمبر 2023 - (أرشيفية)

غريغوري شوباك*‏ - (ريسبونسيبل ستيتكرافت)27/9/2023
‏كان التدخل العسكري لقوات حلف شمال الأطلسي في ليبيا في العام 2011 حلقة في سلسلة الأحداث التي أدت إلى مأساة الفيضانات الشهر الماضي.‏
*   *   *
‏تقوم وسائل الإعلام ‏‏الإخبارية بتصنيع القبول والموافقة‏‏، وإحدى الطرق التي تفعل بها ذلك هي تصنيع فقدان الذاكرة -سوف يجعل دفن الآثام السابقة لحكومة من السهل بيع أفعالها الآثمة المستقبلية.

اضافة اعلان


‏كانت الفيضانات الكارثية التي أطلقتها "العاصفة دانيال" على ليبيا، والتي قتلت ‏‏ما وصل إلى 10.000‏‏ شخص، كارثة طبيعية وكارثة من صنع الإنسان أيضا. وفي الأسبوع الذي تلا العاصفة، ذكر جزء كبير من التغطية الإعلامية "الحرب" كسبب لعدم تجهيز البلاد للتعامل مع الكارثة.


‏ومع ذلك، كان النقاش الإعلامي حول مساهمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ما أصبح حرب ليبيا الأبدية شبه معدوم. ويجعل تورط الناتو الوثيق -وإن كان بالوكالة- في الحرب الحالية في أوكرانيا من هذا الإغفال أكثر إدهاشا.‏


يمكن إرجاع زمن الحرب في ليبيا المعاصرة إلى شباط (فبراير) 2011، عندما تطورت الاحتجاجات التي ثارت ضد حكومة معمر القذافي إلى نزاع مسلح. في الأيام الأولى من القتال، ‏‏ضخمت‏‏ ‏‏وسائل الإعلام‏‏ الأميركية الادعاءات بأن القوات الجوية الليبية كانت تقصف المتظاهرين، على الرغم من تصريحات كبار مسؤولي البنتاغون بأنه "لا يوجد ‏‏أي تأكيد على الإطلاق" لحدوث مثل هذا القصف.


‏كما اتهمت وسائل إعلام غربية وسياسيون غربيون القذافي بتنفيذ مذبحة جماعية ممنهجة ضد المدنيين، وبأنه يعتزم فعل المزيد من الشيء نفسه -خاصة مع تقدم القوات الحكومية نحو بنغازي التي تسيطر عليها المعارضة. وفي هذا المناخ، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1973 في آذار (مارس) 2011، الذي أذن باتخاذ "جميع التدابير اللازمة" لحماية المدنيين الليبيين.‏


فسر حلف شمال الأطلسي القرار ‏-بطريقة مريبة ومشكوك فيها- على أنه يمنحه الحق في الإطاحة بالحكومة الليبية. وبعد ذلك قامت قوات الحلف -في المقام الأول بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة- بتنفيذ ‏‏حوالي‏‏ 9.700 طلعة جوية وإسقاط أكثر من 7.700 قنبلة دقيقة التوجيه خلال حملة قصفها التي استمرت سبعة أشهر. ‏


‏ولم يضمن ذلك القصف النصر النهائي للثوار فحسب، الذين كانوا في الغالب مجموعة متباينة من الميليشيات المحلية والقبلية، والمقاتلين الإسلاميين، والجنود الساخطين، الذين وحدتهم فقط معارضتهم للقذافي (الذي ‏‏سهلت‏‏ غارة جوية لحلف شمال الأطلسي وفاته).

 

لقد قتل أيضًا أعدادًا كبيرة من ‏‏المدنيين الذين‏‏ ادعت قوات الحلف أنها تقصف لتحميهم، وتُركت ليبيا من دون حكومة عاملة (ومكّن التدخل، إضافة إلى ذلك، من وصول عشرات الآلاف من قطع الأسلحة التي ضمتها ترسانة حكومة القذافي إلى أيدي المتمردين في جميع أنحاء ليبيا ومنطقة الساحل وخارجها، لا سيما في ‏‏سورية‏‏).‏


خلال معظم الفترة التي مرت منذ الإطاحة بالقذافي، عانت ليبيا من حرب أهلية شهدت انقسام البلاد بين فصيلين متنافسين مدججين بالسلاح، يدعي كل منهما أنه الحكومة: الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر في الشرق؛ وحكومة "الوفاق الوطني" التي تتخذ من طرابلس مقرا لها في الغرب.‏


‏لا يوجد دليل على أن قصف الناتو أسهم بشكل مباشر في انهيار السدود التي تسببت في الفيضانات الكارثية في درنة (على الرغم من ‏‏أن الحرب أوقفت‏‏ أعمال إعادة التأهيل التي كانت تقوم بتنفيذها شركة بناء تركية).

 

ومع ذلك، لا شك في أن تدخل الناتو أسهم في تدمير الدولة الليبية والنسيج الاجتماعي للبلد، مما ساعد على جلب سنوات من الحرب التي كانت إحدى نتائجها عدم القدرة على صيانة البنية التحتية الحيوية في البلد.


ومع ذلك، كان هذا السياق غير مرئي تقريبا في تغطية وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية للفيضانات الأخيرة في ليبيا -حتى في تلك التقارير التي حددت "الحرب" كعامل يساعد على تفسير حجم الكارثة.‏
‏استخدمتُ قاعدة البيانات الإخبارية "فاكتيفا" Factiva للبحث في المواد المنشورة في صحف "نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال" و"الواشنطن بوست" -التي يمكن قول إنها الصحف الوطنية الثلاث الأكثر نفوذا في الولايات المتحدة- في الفترة بين يوم الأحد 10 أيلول (سبتمبر)، وهو اليوم الذي غمرت فيه المياه مدينة درنة، والسبت 16 أيلول (سبتمبر). وبحثت عن كلمات "ليبيا" وتنويعات مختلفة من "الفيضان"، مثل "غمرت" وما شابه، وحصلت على 67 نتيجة، الغالبية العظمى منها يُفترض أنها تقارير إخبارية "موضوعية" أكثر من كونها مقالات افتتاحية.

 

وقد احتوت 40 منها على كلمة "حرب"، لكنّ 3 منها فقط هي التي استخدمت أيضا مصطلح "الناتو"، أو ما يعادل 7.5 في المائة فقط من المحتوى. واحتوت مادتان إضافيتان على كلمات "ناتو" و"ليبيا" و"الطوفان"، ولكن ليس "الحرب"، واستخدمت بدلاً منها كلمة "تدخل" لوصف دور الناتو في الأزمة الليبية.


وهكذا، فإن خمس مقالات فقط -أو 7.4 في المائة- من إجمالي تغطية الأسبوع للفيضانات أشارت إلى الناتو.‏


‏ومن الأمثلة النموذجية للتغطية في تلك المقالات حيث تم ذكر "الحرب" كسبب مساهم في الكارثة الليبية، كان تقرير صحيفة "الواشنطن بوست" الذي أشار إلى أن ليبيا "عصف بها أكثر من عقد من الحرب والفوضى، وانقسمت بين حكومتين متنافستين، مع عدم وجود سلطة مركزية لدعم البنية التحتية أو وضع خطط لإنقاذ السكان".

 

وفي مكان لاحق، ذكر التقرير أن "ليبيا الغنية بالنفط دمرتها الصراعات منذ سقوط ديكتاتورها منذ فترة طويلة، معمر القذافي، في العام 2011" -مرة أخرى من دون ذكر مساهمة الناتو.‏


وبالمثل، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" ‏‏مقالاً‏‏ يصف ليبيا بأنها "دولة في شمال إفريقيا مزقتها الحرب، ولم تكن مستعدة للتعامل مع العاصفة... وعلى الرغم من مواردها النفطية الهائلة، إلا أن بنيتها التحتية كانت سيئة الصيانة بعد أكثر من عقد من الفوضى السياسية".

 

وفيما يتعلق بأحداث العام 2011، تشير المقالات إلى أن "ليبيا تحملت 42 عاما من الحكم الاستبدادي في عهد العقيد معمر القذافي قبل ‏‏الإطاحة‏‏ به في ثورة العام 2011". وتشير هذه الرواية إلى أن الإطاحة بالقذافي كانت شأنا داخليا بحتا وتحجب تماما الدور الحاسم الذي لعبته حملة الناتو إلى جانب القوات ‏‏المناهضة‏‏ للحكومة، الذي خلق الظروف لمزيد من عدم الاستقرار والحرب.‏


‏ووفقاً للصحيفة‏‏، فإن "الكارثة الطبيعية (في ليبيا) كانت قيد الإعداد منذ عقود -نتيجة لسنوات من الإهمال الرسمي لسدين قريبين خلال فترة النظام الاستبدادي لمعمر القذافي والأزمة السياسية والحرب المستعرة منذ الإطاحة به في ثورة 2011".

 

ويسلط المؤلفون الضوء على الدور الذي لعبته الحرب في تمهيد الطريق للفيضانات، لكنهم يتجاهلون كيف ساعد تدخل الناتو ضد حكومة القذافي على توليد الانهيار المجتمعي والحكومي، وحرب ما بعد القذافي.‏


‏بطبيعة الحال، لا يعني مجرد ذكر حلف شمال الأطلسي بالضرورة أن تكون المادة الإخبارية المعنية قد أعطت القراء صورة دقيقة لما فعله الحلف في ليبيا.

 

على سبيل المثال، تقول ‏‏صحيفة‏‏ "الواشنطن بوست" إن القذافي حكم ليبيا حتى "قتلته قوات المتمردين خلال انتفاضة الربيع العربي المدعومة من حلف شمال الأطلسي".

 

وهذه الصياغة غامضة في أحسن الأحوال: فهي لا تعطي القراء أي معرفة عن الشكل الذي اتخذه "دعم" الناتو لـ"انتفاضة الربيع العربي" في ليبيا. وكان تحليل كتبه إيشان ثارور وظهر في النسخة الإلكترونية من "الواشنطن بوست" ولم يُنشر في النسخة المطبوعة من الصحيفة، أقرب بكثير إلى الهدف عندما قال إن "الوضع الراهن غير المستقر في ليبيا" هو نتيجة للقوى السياسية المحلية في ليبيا و"تدخل الجهات الفاعلة الخارجية. وقد بدأ ذلك بالتدخل الذي قاده حلف شمال الأطلسي في العام 2011".‏


أشارت صحف "نيويورك تايمز" و"وول ستريت" و"الواشنطن بوست" مرارا وتكرارا إلى الصلة بين الفيضانات في ليبيا والنزاع المسلح في البلاد. لكن هذه المنشورات رفضت، مع استثناءات قليلة جدا، الاعتراف بأن حلف الناتو اختار في العام 2011 قصف ليبيا إلى أن تتم الإطاحة بحكومتها.

 

وفي هذا الصدد، فشلت الصحف في تذكير قرائها بأن تدخل الحلف كان جزءا من سلسلة الأحداث التي أدت إلى كارثة الشهر الماضي. وقد يبدو مثل هذا التذكير وثيق الصلة اليوم بشكل خاص في ضوء التنشيط الذي يتم الحديث عنه لحلف الناتو وتوسعه الشمالي بسبب دوره المتنامي في دعم أوكرانيا ضد الغزو الروسي.‏

‏*غريغوري شوباك‏ Gregory Shupak: يكتب القصة والتحليل السياسي، ويدرِّس في جامعة تورنتو. وهو مؤلف كتاب "القصة الخطأ: فلسطين وإسرائيل والإعلام" The Wrong Story: Palestine, Israel, and the Media، وهو كاتب عمود أيضا في "كانيديان دايمنشن". تظهر كتاباته في صحف ومجلات منها، "فير"، و"الغارديان"، و"جاكوبين"، و"ذا نيشن".


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Media completely ignores NATO war role in Libya chaos

 

اقرأ المزيد في ترجمات