في الناتو.. أميركا استعادت السيطرة على أوروبا‏

الرئيس الأميركي جو بايدن في قمة الناتو الأخيرة - (أرشيفية)
الرئيس الأميركي جو بايدن في قمة الناتو الأخيرة - (أرشيفية)

‏‏‏مايكل ليند – (أن-هيرد) 14/7/2023
‏حربنا الباردة الجديدة حولت الاتحاد الأوروبي إلى محمية‏ أميركية
                             *   *   *
‏أصبح من الواضح الآن أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد أشر على نهاية حقبة في السياسة العالمية وبداية حقبة جديدة. وكما كان الحال مع سقوط جدار برلين في العام 1989، وانهيار فترة الهدوء في أعقاب الغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979، والحرب الكورية في العام 1950، فإن من السابق لأوانه الآن التنبؤ بنتيجة ما لا يمكن أن يُسمى سوى الحرب الباردة الثانية. ومع ذلك، ثمة نتيجة واحدة أصبحت واضحة مُسبقًا: تسارُع هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا.‏

اضافة اعلان


منذ الخمسينيات، كان هناك دعم للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي بين كل من الديغوليين الأوروبيين الذين يسعون إلى تقليل نفوذ الولايات المتحدة على الدفاع الأوروبي، والأميركيين الذين يأملون في نقل عبء حماية أوروبا إلى الأوروبيين أنفسهم. ومع ذلك، لم يتم خلال ما يقرب من سبعة عقود بناء أي بديل أوروبي موثوق به لحلف شمال الأطلسي (ناتو).‏


والآن، بعد قمة حلف الناتو التي التأمت الأسبوع الماضي، لا يسع المرء سوى استنتاج أن الاستقلال العسكري الأوروبي يجب تأجيله مرة أخرى، هذه المرة لمدة عقد أو جيل، أو حتى لفترة أطول.

 

فقد أظهر رد الفعل على غزو بوتين أن الولايات المتحدة وحدها هي التي لديها الوحدة والبنية التحتية العسكرية اللازمتين لتنسيق الجهود العسكرية متعددة الجنسيات في أوروبا أو بالقرب منها. وقد أكد الصراع على اعتمادية حلفاء أميركا الأوروبيين على الجيش الأميركي بشكل أكثر دراماتيكية حتى من حروب البلقان والمغامرة الليبية.‏


‏لن يؤدي توسيع حلف شمال الأطلسي ليشمل فنلندا والسويد -وأوكرانيا بشكل شبه مؤكد في المستقبل القريب نسبيًا- سوى إلى المزيد من تعزيز نفوذ الولايات المتحدة في التحالف عبر الأطلسي.

 

وكقاعدة عامة، كلما اقتربت دولة من دول الناتو من حدود روسيا، كانت مفضلة أكثر لدى الولايات المتحدة. وقد اعترف دونالد رامسفيلد بهذا بعد غزو العراق، حيث وبخ المتشككين من أقطاب "أوروبا القديمة" (فرنسا وألمانيا)، في حين أشاد بـ"أوروبا الجديدة" التي شكلتها البلدان المتحررة من الكتلة السوفياتية. واليوم، أظهرت بولندا دورها على الخطوط الأمامية للحرب الباردة الثانية، فألزمت نفسها بإنفاق ما لا يقل عن 3 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. ويقوي مثل هذا التشدد الصقري موقف الولايات المتحدة بينما يضعف فرنسا وألمانيا اللتين كانتا أكثر ميلاً إلى تفضيل العلاقات الجيدة مع روسيا.‏


‏في حرب باردة مطولة، لا ينبغي أن نتفاجأ إذا لعب الاتحاد الأوروبي دورًا يزيد تبعية باطراد في حلف شمال الأطلسي. فبعد كل شيء، مع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي الذي يبدو من المرجح أن يتبع أو يصاحب انضمام أوكرانيا في نهاية المطاف إلى حلف شمال الأطلسي، فإن الاتحاد الأوروبي سوف يضم 28 عضوًا -أي أقل من 32 عضوًا في حلف شمال الأطلسي، بعد انضمام فنلندا والسويد، أو 33 عضوًا إذا انضمت أوكرانيا. وبعبارة أخرى، فإن عددًا أكبر من الدول الأوروبية ستكون أعضاء في الناتو الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بمكانة القوة المهيمنة، من دول الاتحاد الأوروبي الذي تهيمن عليه شراكة ألمانيا وفرنسا.‏


وبذلك، فإن المشهد الجيوسياسي في مرحلة ما بعد أوكرانيا سوف يمثل، في الوقت الحالي على الأقل، نهاية للحلم الديغولي المتمثل في تشكل قوة عظمى أوروبية بقيادة فرنسا. كما سيمثل نهاية لمحاولة ألمانيا الحصول على أفضل ما في كل العوالِم كمحمية دفاعية لأميركا، وزبون طاقة لروسيا، وشريك تجاري رئيسي للصين.

 

وقد يفضل الأوروبيون وصف فك الارتباط مع الاقتصاد الصيني بأنه "نزع للمخاطر"، ولكن مهما يكن المصطلح الذي يُستخدَم، فمن المرجح أن تتسارع الظاهرة بناء على إصرار صناع السياسة في واشنطن من كلا الحزبين، اللذين تُعتبر الحرب الباردة الثانية بالنسبة لهما صراعًا عالميًا واحدًا ضد كتلة صينية - روسية بحكم الأمر الواقع.‏


‏وهذا لا يعني أن الدول الأوروبية الفردية، أو ربما الاتحاد الأوروبي ككل، سيكونون صارمين في التعامل مع التجارة ونقل التكنولوجيا بنفس صرامة شريكهم الاستراتيجي الأميركي. ولكن في حين أن أوروبا قد تفضل تجنب الاختيار، فإنه يمكن الاعتماد على أن أغلب الدول الأوروبية ستقف، لدى الضغط عليها، إلى جانب الولايات المتحدة، الشيطان الذي تعرفه، بدلاً من النظام الشيوعي الصيني الاستبدادي المتكتم.‏


في الأجيال السابقة، تعثرت مقترحات مثل "شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي" سيئة المصير، وهي بمثابة منظمة حلف شمال أطلسي للتجارة، بسبب معارضة الشركات والمواطنين في الدول الأوروبية. وحتى يومنا هذا، يخشى الكثيرون في بريطانيا من أن يؤدي وضع القواعد عبر الأطلسي إلى خصخصة وتدمير الخدمة الصحية الوطنية العزيزة، في حين أن لدى المزارعين الأوروبيين تحفظات بشأن المنافسة مع الأعمال التجارية الزراعية الأميركية.‏


‏لكنّ أميركا بعيدة كل البعد عن أن تكون التهديد التجاري الوحيد، ناهيك عن التهديد الأكثر أهمية، لأوروبا. وفقًا لشركة التأمين الألمانية "أليانز"، تواجه ‏‏صناعة السيارات الأوروبية‏‏ الآن تحديًا حاسمًا من واردات السيارات الصينية.

 

وبمرور الوقت، قد تقتطع ‏‏صناعة طائرات الركاب‏‏ التي ترعاها الدولة في الصين من حصة الاحتكار الثنائي العالمي الذي تمتعت به شركتا "إيرباص" و"بوينغ" الأميركيتين لأجيال.

 

وبينما تجد نفسها مهددة من النزعة التجارية الصينية المدعومة من الحكومة في سوق عالمية تلو الأخرى، قد تعيد الصناعات الأوروبية قريبًا النظر في شكوكها بشأن تكوين تكتل تجاري عبر-أطلسي.‏


في أماكن أخرى، سوف تعمل الاتجاهات الديموغرافية على التعجيل بالتحول في القوة الاقتصادية والعسكرية من أوروبا إلى الولايات المتحدة. في العام 1960، كان عدد سكان أميركا حوالي 180 مليون نسمة، مقارنة بـ406.8 مليون نسمة في ‏‏ما أصبح يعرف باسم‏‏ "الاتحاد الأوروبي" -حوالي 44 في المائة من إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي.

 

واليوم، فيما كان إلى حد كبير نتيجة للنمو السكاني الأخير المدفوع بالهجرة، يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة 334 مليون نسمة -ما يقرب من 75 في المائة من عدد ‏‏سكان الاتحاد الأوروبي في العام 2022،‏‏ البالغ عددهم 447 مليون نسمة.

 

وإذا افترضنا ‏‏استمرار اتجاهات‏‏ الهجرة السنوية الصافية البالغة مليون شخص سنويًا إلى الولايات المتحدة، فإن عدد سكانها يمكن أن يصل بحلول العام 2060 إلى 405 ملايين نسمة، أي نحو 80 في المائة من عدد الأوروبيين الذي يُتوقع أن يكون 517 مليون نسمة.


بطبيعة الحال، يجب التعامل مع أي توقعات من هذا القبيل بتشكك، نظرًا لغياب اليقين بشأن معدلات الخصوبة وسياسات الهجرة الوطنية. ولكن، في ضوء الدعم الذي تتلقاه فكرة الهجرة الجماعية من النخبة الأميركية من كلا الحزبين، بغض النظر عن المشاعر الشعبية، فإن حصة أميركية متنامية من السكان عبر الأطلسي تبدو مرجحة بالتأكيد. وحتى التكافؤ الديموغرافي القريب بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقلل من شأن الميزة الاقتصادية الأميركية على أوروبا.

 

في الغالب، تميل الشركات العالمية الأميركية إلى التفوق على الشركات الأوروبية لأنها تستفيد من وجود سوق محلية ضخمة واحدة تسمح لها بجني عوائد متصاعدة. وفي حين تفيد السوق المحلية الضخمة الشركات الصينية على نحو مماثل، فإن التكامل الأوروبي لم يتمكن بعد من توفير سوق موحدة مكافئة، وربما لن يتمكن من توفيرها في أي وقت.

 

‏‏على النقيض من الإمكانات العسكرية والوزن التجاري، تظل الثقافة عاملًا غير ملموس. ولكن، يبدو أن نفوذ أميركا في مجال الترفيه الجماعي والفنون والأفكار داخل الغرب في حالة نمو هو الآخر.

 

من القرن 19 وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضل ميزان الأفكار عبر الأطلسي أوروبا الغربية. كان الفنانون والخبراء الأميركيون يحجّون إلى باريس، العاصمة العالمية للفن، لاسكتشاف الاتجاهات الجديدة في الرسم والنحت والهندسة المعمارية.

 

وفي الذاكرة الحية من الستينيات والسبعينيات، قام طلبة السينما الأميركيون بتحليل أعمال المخرجين الفرنسيين والإيطاليين، بينما كان على الأميركيين المتعلمين أن يتوافروا على الأقل على ما يعادل محتوى كتيِّب جيب إرشادي من المعرفة عن الفلسفة الألمانية والفرنسية والبريطانية المعاصرة. ‏


وفي الجامعات الأميركية، استمع الطلاب بإعجاب إلى أساتذة حقيقيين أو فخريين من ذوي اللكنات أجنبية -من المثقفين المهاجرين الذين فروا من الاشتراكية القومية أو الشيوعية السوفياتية.

 

ومؤخرًا في التسعينيات، كانت هناك مناقشات حية عبر الأطلسي حول المزايا النسبية للرأسمالية الليبرالية الأنجلو-أميركية، ورأسمالية السوق الاجتماعية الألمانية، والديمقراطية الاجتماعية في بلدان الشمال.‏


‏ومع ذلك، في نصف القرن الماضي، انعكست وجهة تدفق كل من الثقافة الشعبية والثقافة الراقية عبر المحيط الأطلسي، حيث أصبح يجري الآن من الغرب إلى الشرق.

 

وكانت آخر حركة فكرية أوروبية كبرى أثرت على الحياة الأكاديمية الأميركية هي ما بعد البنيوية الفرنسية، وهي ظاهرة في الستينيات والسبعينيات اكتشفها الأساتذة الأميركيون متأخرين وفي الترجمة إلى حد كبير في العقود التالية. وعندما يُطلب من معظم المثقفين الأميركيين تسمية فيلسوف ألماني معاصر مؤثر، فإنهم سيكونون في حيرة من أمرهم أمام تسمية أي أحد آخر غير يورغن هابرماس، البالغ من العمر الآن 94 عامًا.‏


في الأثناء، انتشرت مثل العدوى في جميع أنحاء بريطانيا وأوروبا الغربية الجوانب الأكثر سُمية للثقافة الفكرية التقدمية السائدة في أميركا، والتي تم احتضانها في حرم الجامعات الأميركية. وأصبحت التعددية الثقافية الأميركية، multiculturalism، "‏‏تعددية الثقافات‏‏" Multikulti في ألمانيا ميركل.

 

وبفضل أيديولوجية المتحولين جنسيًا المستوردة من الولايات المتحدة، تحدِّد الشرطة البريطانية الآن مرتكبي الجرائم الجنسية المتحولين جنسيًا على أنهم "هي" وتناقش الكنيسة الأنجليكانية ضمائر التذكير والتأنيث الخاصة بالله تعالى. وربما كان الأكثر غرابة على الإطلاق، من منظور أميركي، هو احتجاجات "حياة السود مهمة" التي نُظمت في جميع أنحاء أوروبا مترافقة مع صور أيقونية لجورج فلويد. وكان ذلك بمثابة دمغة العلامة المائية العالية للهيمنة الثقافية الأميركية المعاصرة على أوروبا –حتى الآن على الأقل.‏


ربما يكون هذا التحول في الاتجاه لعبة عادلة في نهاية المطاف. بالنسبة لمعظم التاريخ الأميركي، كانت الولايات المتحدة مستعمَرة ثقافية لبريطانيا وأوروبا.

 

وكانت الابتكارات المتطورة في الفن والأدب والفكر الأميركي تميل إلى أن تكون من موضة أوروبا الغربية قبل جيل أو جيلين.

 

ومع ذلك، أصبح بإمكان الفنانين والكتاب والمفكرين الأميركيين الآن زيارة أوروبا ومقابلة الأشخاص الذين يتعاملون مع ما كانت البدع الثقافية والأكاديمية الأميركية بالأمس على أنها اتجاهات جديدة ومثيرة. ولكي يصبح السيء أكثر سوءًا، أصبحت اللغة الإنجليزية-الأميركية هي اللغة المشتركة لأوروبا. هل ما يزال الأوروبيون خارج تلك البلدان يدرسون لغات ألمانيا وفرنسا؟‏


‏في العام 2008، نشر ‏‏إدوارد بالادور‏‏، رئيس وزراء فرنسا السابق، ‏‏كتابه بعنوان "من أجل اتحاد الغرب: بين‏‏ أوروبا والولايات المتحدة" For a Union of the West: Between Europe and the United States، ودعا فيه أوروبا والولايات المتحدة إلى توحيد قواهما استجابة للمنافسة المتزايدة من الصين وبقية العالم غير الغربي. وهنا، حدد تحديًا حقيقيًا للطريقة الفرنسية، اقترح إنشاء اتحاد عبر-أطلسي معقد وبيروقراطي.‏


‏مع ذلك، إذا ظهر تكامل أعمق في طرفي الأطلسي، فإنه لن يكون نتيجة لمؤسسات وإجراءات رسمية. سوف ينتج عن تعميق الهيمنة الأميركية على أوروبا، والبناء على الاتجاهات القائمة التي تسارعت بفعل ديناميات الحرب الباردة الثانية في أعقاب الحرب في أوكرانيا.

 

وبعد أن حققت أهدافها في قمة الناتو في فيلنيوس، من المتوقع أن تعزز أميركا تحالفًا عسكريًا وتجاريًا أوثق مع أوروبا -في خدمة استراتيجية واشنطن المتمركزة حول الصين.‏

*‏مايكل ليند‏‏ كاتب عمود في "تابلت" ‏‏Tablet‏‏ وزميل في مؤسسة "أميركا الجديدة"New America. كتابه الأخير هو ‏‏"تداعيات خطيرة: كيف يدمر قمع الأجور أميركا" Hell to Pay: How the Suppression of Wages is Destroying America‏‏.‏


*نشر هذا المقال تحت عنوان: At Nato, America recaptured Europe

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

على الكونغرس إنهاء الحرب في أوكرانيا بالانسحاب من الناتو