‏‏ترجمة: علاء الدين أبو زينة

ليبيا: بعد الدمار الذي جلبه "الناتو" جاءت العاصفة دانيال

Untitled-1
‏"غرق على اليابسة"، لوحة للفنانة شفاء سالم البرعيسي، ليبيا، 2019 – (المصدر)

‏‏‏فيجاي براشاد‏‏ ‏- (تريكونتيننتال) 2023/9/22

ترك مصطفى الطرابلسي، الذي قتل بسبب الفيضانات الأخيرة في درنة الليبية، قصيدة يقرأها اللاجئون من مدينته والليبيون في جميع أنحاء البلاد.

*   *   *
قبل ثلاثة أيام من انهيار سديّ "أبو منصور" و"البلاد" في وادي درنة بليبيا، ليلة 10 أيلول (سبتمبر)، شارك الشاعر مصطفى الطرابلسي في نقاش أقيم في "دار الثقافة" في درنة حول إهمال البنية التحتية الأساسية في مدينته. ‏

اضافة اعلان


‏وحذر الطرابلسي في الاجتماع من سوء حالة السدود. وكما ‏‏كتب‏‏ على فيسبوك في اليوم نفسه، فإن مدينته الحبيبة تعرضت، على مدى العقد الماضي، "للنبش والتفجير، من ثم غُلّق عليها بسور ليس له باب، فظلت متشحة بالخوف والاكتئاب". 


بعد ذلك، تجمّعت العاصفة دانيال قبالة ساحل البحر الأبيض المتوسط، واندفعت إلى ليبيا، ‏‏وحطمت‏‏ السدود. وأظهرت ‏‏لقطات‏‏ كاميرات المراقبة في حي المغار بالمدينة التقدم السريع لمياه الفيضانات، التي كانت قوية بما يكفي لتدمير المباني وسحق الأرواح. 


‏‏وأفادت التقارير بأن 70 في المائة من البنية التحتية و95 في المائة من المؤسسات التعليمية قد ‏‏تضررت‏‏ في المناطق التي اجتاحتها الفيضانات.

 

وحتى يوم الأربعاء، 20 أيلول (سبتمبر) كان‏‏ ما يقدر بنحو‏‏ 4,000 إلى 11,000 شخص قد لقوا حتفهم في الفيضان –من بينهم الشاعر مصطفى الطرابلسي نفسه، الذي ذهبت تحذيراته على مر السنين أدراج الرياح– وهناك 10,000 آخرين في عداد المفقودين.‏


قام هشام شكيوات، وزير الطيران في حكومة الاستقرار الوطني الليبية (ومقرها سرت)، بزيارة إلى درنة في أعقاب الفيضان، ‏‏وقال‏‏ لمحطة (بي بي سي): "لقد صدمت بما رأيته. إنه مثل تسونامي. لقد تم تدمير حي ضخم. هناك عدد كبير من الضحايا، وهم يتزايدون كل ساعة". ‏


‏أكل البحر الأبيض المتوسط هذه المدينة القديمة التي تضرب جذورها في الفترة الهلنستية (326 إلى 30 قبل الميلاد). وقال حسين سويدان، رئيس هيئة الطرق والجسور في درنة، ‏‏أن المساحة الإجمالية التي تعرضت "لأضرار جسيمة" بلغت 3 ملايين متر مربع. وأضاف: "الوضع في هذه المدينة أكثر من كارثي".


‏وقالت‏‏ الدكتورة مارغريت هاريس من منظمة الصحة العالمية أن الفيضان كان "ذا أبعاد ملحمية". وأضافت: "لم تكن هناك عاصفة مثل هذه في المنطقة في الذاكرة الحية. ولذلك هذه صدمة كبيرة".‏


سرعان ‏تحولت صيحات الألم في جميع أنحاء ليبيا إلى صرخات غضب من الدمار، أصبح يتطور الآن إلى مطالب بإجراء تحقيق. ‏


‏ولكن من سيجري هذا التحقيق: حكومة الوحدة الوطنية التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، برئاسة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة والمعترف بها رسميًا من قبل الأمم المتحدة؛ أم حكومة الاستقرار الوطني، برئاسة رئيس الوزراء أسامة حمادة في سرت؟


‏هاتان الحكومتان المتنافستان –اللتان كانتا في حالة حرب مع بعضهما البعض لسنوات عديدة– شلتا سياسة البلاد، التي تضررت مؤسسات الدولة فيها بشكل قاتل بسبب قصف منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 2011.‏


لم تتمكن الدولة المنقسمة ومؤسساتها المتضررة من توفير الخدمات المناسبة لسكان ليبيا البالغ عددهم حوالي 7 ملايين نسمة في البلد الغني بالنفط -لكنه الآن مدمر تمامًا. ‏


‏قبل المأساة الأخيرة، كانت الأمم المتحدة تقدم مُسبقًا مساعدات إنسانية لما لا يقل عن 300,000 مواطن ليبي، لكنها تقدّر الآن، بعد للفيضانات، ‏‏‏ أن ما لا يقل عن 884,000 شخص إضافي سوف يحتاجون إلى المساعدات. ومن المؤكد أن يرتفع هذا العدد إلى 1.8 مليون على الأقل. ‏


‏أفادت‏‏ الدكتورة هاريس من منظمة الصحة العالمية أن بعض المستشفيات قد "مُحِيت" تمامًا وأن هناك حاجة إلى الإمدادات الطبية الحيوية، بما في ذلك مجموعات معالجة الصدمات وأكياس الجثث. وقالت ‏‏تمار‏‏ رمضان، رئيسة بعثة الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في ليبيا: "إن الاحتياجات الإنسانية ضخمة وتتجاوز بكثير قدرات الهلال الأحمر الليبي، بل وتتجاوز قدرات الحكومة".‏


لا ينبغي التقليل من أهمية التركيز على محدوديات الدولة. وبالمثل، ‏‏أشار‏‏ الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، بيتيري تالاس، إلى أنه على الرغم من تعرض البلاد إلى مستوى غير مسبوق من هطول الأمطار (414.1 ملم في 24 ساعة، كما سجلت إحدى المحطات)، إلا أن انهيار مؤسسات الدولة ساهم في وقوع الكارثة. ‏


‏ولاحظ تالاس أن "المركز الوطني للأرصاد الجوية" في ليبيا يعاني من "ثغرات كبيرة في أنظمة الرصد الخاصة به. ولا تعمل أنظمة تكنولوجيا المعلومات لديه بشكل جيد، وهناك نقص مزمن في الموظفين. ويحاول المركز الوطني للأرصاد الجوية أن يعمل، لكنّ قدرته على القيام بذلك محدودة. لقد تعطلت السلسلة الكاملة لإدارة الكوارث وحوكمتها". وبالإضافة إلى ذلك، قال أن "تجزئة آليات إدارة الكوارث والاستجابة للكوارث في البلاد، فضلاً عن تدهور البنية التحتية، أدت إلى تفاقم ضخامة التحديات. إن الوضع السياسي يشكل محركًا للمخاطر".‏


انضم عبد المنعم العارفي، عضو البرلمان الليبي (في القسم الشرقي)، إلى زملائه المشرّعين في الدعوة إلى إجراء تحقيق في أسباب الكارثة. ‏


‏وأشار العارفي في بيانه إلى‏‏ المشاكل الكامنة مع الطبقة السياسية الليبية لما بعد العام 2011. في العام 2010، أي قبل عام من حرب حلف شمال الأطلسي على البلد، خصصت الحكومة الليبية أموالاً لترميم سديّ وادي درنة (كلاهما بني بين العامين 1973 و1977). وكان من المفترض أن تقوم بإنجاز هذا المشروع شركة تركية، لكن الشركة غادرت البلاد خلال الحرب. 


ولم يتم أبدًا استكمال المشروع، واختفت الأموال المخصصة له. ووفقًا للعارفي، أوصى المهندسون في العام 2020 بترميم السدود لأنها لم تعد قادرة على التعامل مع هطول الأمطار العادي، لكن هذه التوصيات وُضعت على الرف. واستمر المال في الاختفاء، ولم يتم تنفيذ العمل، ببساطة.‏


‏لطالما ميزت الحصانة وواقع الإفلات من العقاب ليبيا منذ الإطاحة بالنظام السابق بقيادة معمر القذافي (1942-2011).


كانت الصحف من دول الخليج العربية قد شرعت في شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2011، في الادعاء بأن قوات الحكومة الليبية تقوم بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الليبي. ‏ثم أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارين: القرار رقم 1970 (شباط/ فبراير 2011) لإدانة العنف وفرض حظر على توريد الأسلحة إلى البلاد؛ ‏‏والقرار رقم 1973‏‏ (آذار/ مارس 2011) للسماح للدول الأعضاء بالتصرف "بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة"، الذي يخوِّل القوات المسلحة بإرساء وقف لإطلاق النار وإيجاد حل للأزمة. ‏‏ ‏


‏وبقيادة فرنسا والولايات المتحدة، ‏‏منع حلف شمال الأطلسي وفد "الاتحاد الأفريقي"‏‏ من متابعة تنفيذ هذه القرارات وإجراء محادثات سلام مع جميع الأطراف في ليبيا. ‏كما تجاهلت الدول الغربية الاجتماع الذي عُقد مع خمسة رؤساء دول أفريقية في أديس أبابا في آذار (مارس) 2011، الذي ‏‏وافق فيه‏‏ القذافي على وقف إطلاق النار، وهو ‏‏اقتراح‏‏ كرره خلال زيارة وفد من الاتحاد الأفريقي إلى طرابلس في نيسان (أبريل). ‏


‏كانت هذه حربًا غير ضرورية استخدمتها الدول الغربية وبعض الدول العربية للانتقام من القذافي. وقد حوَّل الصراع المروع ليبيا، التي كانت تحتل المرتبة 53 من أصل 169 دولة على ‏‏مؤشر‏‏ التنمية البشرية للعام 2010 (أعلى مرتبة في القارة الأفريقية)، إلى بلد يسجل مؤشرات ضعيفة في التنمية البشرية ويحتل الآن مرتبة أدنى‏‏ بكثير في أي قائمة من هذا القبيل.‏


بدلاً من السماح بتنفيذ خطة سلام يقودها الاتحاد الأفريقي، بدأ حلف شمال الأطلسي في تنفيذ حملة قصف تضمنت أكثر من 9.600 غارة جوية على أهداف ليبية، مع التركيز بشكل خاص على مؤسسات الدولة. وفي وقت لاحق، عندما طلبت الأمم المتحدة من "الناتو" حساب الأضرار التي أوقعها بالبلد، ‏‏كتب‏‏ المستشار القانوني للحلف، بيتر أولسون، أنه ليست هناك حاجة لإجراء تحقيق، لأن "الناتو لم يستهدف المدنيين عمدًا ولم يرتكب جرائم حرب في ليبيا". ‏


‏لم يكن هناك أي اهتمام بالتدمير المنهجي والمتعمد للبنية التحتية الحيوية للدولة الليبية، التي لم تتم إعادة بنائها أبدًا منذ ذلك الحين، والتي يشكل غيابها مفتاحًا لفهم المجزرة التي حدثت في درنة.‏


أدى تدمير حلف شمال الأطلسي لليبيا إلى سلسلة من الأحداث: انهيار الدولة الليبية؛ اندلاع الحرب الأهلية التي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا؛ انتشار المتطرفين الإسلاميين في جميع أنحاء شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، التي أدت زعزعة الاستقرار فيها على مدى عقد كامل إلى وقوع سلسلة من الانقلابات، من بوركينا فاسو إلى ‏‏النيجر‏‏. ‏


‏وأدى ذلك لاحقًا إلى نشوء طرق جديدة للهجرة نحو أوروبا وأفضى إلى وفاة أعداد كبيرة من المهاجرين في كل من الصحراء الكبرى والبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى نطاق غير مسبوق من عمليات الاتجار بالبشر في المنطقة. أضف إلى هذه القائمة من المخاطر -ليس الوفيات في درنة، وبالتأكيد الوفيات الناجمة عن العاصفة دانيال فحسب- ولكن أيضًا ضحايا الحرب التي لم يتعاف منها الشعب الليبي على الإطلاق.‏


مباشرة قبيل الفيضان الذي في ليبيا، ضرب زلزال مدمر جبال الأطلس الكبير المجاورة في المغرب، وأدى إلى محو قرى كاملة، مثل تنزيرت، ومقتل حوالي 3.000 شخص. ‏‏وكان‏‏ الشاعر المغربي أحمد بركات 1960-1994) قد كتب: لن أساعد الزلزالْ/ حَذِرٌ، كأني أحملُ في كفّي الوردة التي توبخ العالم". ويبدو الأمر كما لو أن المأساة قررت اتخاذ خطوات جبارة على طول الحافة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط في هذه الآونة.‏


‏ثمة مزاج مأساوي استقرّ عميقًا في روح الشاعر مصطفى الطرابلسي ابن درنة. في 10 أيلول (سبتمبر)، قبل أن تجرفه موجات الفيضان، ‏‏كتب‏‏، "ليس لنا في هذه الشدة إلا بعض.. لنتساند حتى لا نغرق".


لكنّ ذلك المزاج كان متداخلاً مع مشاعر أخرى: الإعجاب بهذا "النسيج الليبي المتوائم"، على حد تعبيره، وإنما الأسف أيضًا لوجود حكومة في طرابلس وأخرى في سرت؛ السكان المنقسمون؛ والمخلفات السياسية للحرب المستمرة على الجسد المكسور للدولة الليبية. ‏


‏"ومن قال إن ليبيا ليست واحدة"؟ كتب الطرابلسي متحسرًا. وبينما كان منسوب المياه يرتفع في درنة، كتب الطرابلسي قصيدة يقرأها اللاجئون الآن من مدينته والليبيون في جميع أنحاء البلاد، مذكرًا إياهم بأن المأساة ليست كل شيء، وبأن "هذه النخوة الليبية التي تظهر عند كل شدة" هي "وعد بالمساعدة"، وأمل في المستقبل.‏
*   *   *
المطر‏
‏‏‏يفضحُ الشوارعَ الغارقة
والمقاولَ‏ ‏‏المخادعَ‏‏ ‏‏والدولةَ الفاشلة.‏
‏‏‏يغسلُ كل شيء،‏
‏‏‏أجنحةَ‏ الطيور ‏‏وفراءَ القطط.‏
‏‏‏يذكِّرُ الفقراء‏
‏‏‏بأسقفهم الهشةِ‏‏ ‏‏وملابسهم الخشنة.‏
‏‏‏إنه يوقظُ الوديان
وينفض‏ُ غبارَها المتثائب‏‏ ‏
وقشورَها الجافة.‏
‏‏‏المطر‏
‏علامةٌ على الخير‏‏، ‏‏وَعدٌ بالمساعدة،‏
‏جرسُ إنذار.‏

*‏‏فيجاي براشاد Vijay Prashad: مؤرخ ومحرر وصحفي هندي. زميل كتابة وكبير المراسلين في موقع "غلوب تروتر"، ومحرر في "كتب العالم اليساري"، ومدير "ثلاثي القارات: معهد البحوث الاجتماعية". وهو زميل أول غير مقيم في‏‏ "معهد تشونغيانغ للدراسات المالية"‏‏ بجامعة رنمين الصينية. كتب أكثر من 20 كتابًا، منها ‏"‏الأمم المظلمة‏‏ والأمم الأكثر فقرا"‏‏. أحدث كتبه هي "‏‏النضال يجعلنا بشرًا: التعلم من الحركات من أجل الاشتراكية"‏؛ ومع نعوم تشومسكي‏، "الانسحاب: العراق وليبيا ‏‏وأفغانستان‏‏ وهشاشة القوة الأميركية".‏‏


*نشر هذا المقال تحت عنوان:

 

After NATO, Storm Daniel Came for Libya

اقرأ المزيد في ترجمات