"وداعا جوليا": نافذة على الصراع والأمل في السودان

بطلة فيلم وداعا جوليا الممثلة سيران رياك
"وداعا جوليا": نافذة على الصراع والأمل في السودان

برزت السينما السودانية في السنوات الخمس الأخيرة بشكل قوي، وقدمت أعمالا مهمة عكست مواهبها بشكل كبير خصوصا من خلال التقاطها للمواضيع التي تقدم نظرة عن كثب وتعكس صورة السودان وتعبر عنه، وزاد رصيد هذه الأعمال القليلة جدا من خلال فيلم" وداعا جوليا" لمخرجه محمد كردفاني.

اضافة اعلان


"وداعا جوليا" الذي أطلق عروضه محليا في السينمات المحلية في فيلم يرسم لوحة مدهشة لصداقة نسائية غير متوقعة، يوجه من خلاله المخرج كردفاني دعوة صادقة لتجاوز الانقسامات واحترام الآخر، كان قد اختتم عروض أسبوع فيلم المرأة في دورته 12 الأسبوع الماضي.


السودان، الذي يتجزأ بين شمال مسلم وجنوب كاثوليكي، شهد استقلال الجنوب في عام 2011، والذي كان يُعتقد أنه سينهي عقوداً من العنف العرقي والتمييز الذي بدأ منذ العام 1955. هذه الأمنيات باءت بالفشل بعد عقد من الزمن. في هذا المشهد المشحون بالتوتر وسوء الفهم، قرر كردفاني، الذي ينحدر من الشمال، إخراج أول أفلامه الطويلة التي تعكس هذه التحديات.


في "وداعاً جوليا" للمخرج السوداني محمد كردفاني، تتكشف الأحداث في خلفية الخرطوم وسط توترات سياسية متصاعدة خلال استقلال جنوب السودان. القصة تنطلق مع تفجر توتر خامد يتمثل في تهديد جار ببندقيته. 

 

ويقدم كردفاني لنا من خلال كاميرته التي تراقب عن بعد دون تدخل منى (إيمان يوسف)، التي تعيش حياة روتينية مع زوجها أكرم (نزار جمعة)، حيث تُبرز لقطات مقربة لها وهي تُعد الطعام. خارج جدران منزلها، تندلع مواجهات بين مجموعة من الجنوبيين وقوات الشرطة، مما يهز استقرار الحياة اليومية. منى المسلمة، التي كانت مغنية قبل أن توقفها ظروف زوجها، تشعر (بأن الشوارع لم تعد آمنة، بينما تجد جوليا، المسيحية الجنوبية (تلعب دورها سيران رياك ملكة جمال الجنوب عام 2015)، نفسها مطرودة ومضطرة للعيش في مدينة الصفيح مع زوجها سانتينو (باولينو فيكتور بول) وابنهما دانيال (لويس دانيال دينغ).


وتتقاطع حيوات منى وجوليا عندما تجبر أعمال شغب منى على الدخول في مسار حياة دانيال. تعقب خيبة أملها من إلغاء حفل جاز، وهي تخشى أن يكتشف زوجها أكرم (نزار جوما) حضورها. بينما كانت تتجول من دون انتباه، يشهد سانتينو الحادثة ويطاردها عندما تفشل منى في الاعتراف بما فعلته.


في لحظة الذعر، تتصل منى بأكرم، الذي ينصحها بالعودة مباشرة إلى المنزل حيث ينتظرها مسلحًا ببندقية. عندما يواصل سانتينو المطاردة، يقوم أكرم بإطلاق النار عليه، وبمساعدة جار متعاون مع الشرطة المحلية، يُغطى على الوفاة ويُسجل سانتينو كـ "جون دو" قُتل على يد مهاجمين مجهولين.


الأحداث تتعقد عندما تضطر منى للتعامل مع جوليا (سيران رياك)، والدة الطفل، التي تُدعى للعيش معها كخادمة دون علمها بأنها أصبحت أرملة. 


الانفصال في كل مكان

 


منى، التي تعاني من الشعور بالذنب بسبب الموت، توظف الأرملة بسرعة، وتنشأ بينهما صداقة هشة. جسد "وداعا جوليا" قصة عن القوة والانفصال، وكيف يسعى الأول ويفشل في وقف الأخير. العلاقة بين المرأتين مبنية على ذنب منى، والأهم من ذلك، يأس جوليا الاقتصادي. يمنح نص كردفاني كلتا الممثلتين مجالًا واسعًا لدراسة بعضهما البعض.

 

وتؤكد أقوى اللحظات مدى انفصالهما، وكيف يضر كسل منى بجوليا بينما تخدع نفسها بالاعتقاد أن أموالها كافية لعلاج الوضع. يتحدث الفيلم عن الانفصال على عدة مستويات: انفصال الرجل عن زوجته، انفصال صديقين، انفصال الأم عن طفلها، الانفصال بسبب الظلم الاجتماعي أو الاختلافات.


 

 

ويؤدي كل هذا من خلال العلاقة الهشة بين الزوجين والتي ترسم الصورة الأكبر لا يؤدي فقط إلى تفتيت العلاقات في الفيلم؛ بل يتم ربط المكان والمحيط وحصره في المنزل، حيث يركز كردفاني والمصور السينمائي بيير دي فيلييه على المنزل باعتباره معمارًا للسرية والسيطرة.


ويقدم الفيلم تصويراً دقيقاً وجمالياً لبيير دي فيلييه يبرز التناقض بين الخارج المشرق والديكورات الداخلية المظلمة. الكاميرا، التي تحافظ على مسافة احترامية، تعكس عدم العنف والاحترام العميق للخصوصية، مما يجعل الفيلم رسالة للسلام والتفاهم المتبادل، معززًا بموسيقا مازن حامد.


تسلسل ذكي 

 


منذ البداية، يفصل فيلم "وداعا جوليا" بشكل مثالي بين التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للسودان وبين الخيال. حتى قبل تقديم شخصياته على الشاشة، قام محمد كردفاني باختيار ذكي لتقديم شخصيته الرئيسة الحقيقية: التوتر السائد بين السودانيين المسلمين في الشمال والسودانيين المسيحيين في الجنوب، والذي سيؤثر عمله في الفيلم بشكل كبير على الرابط بين أبطاله: جوليا ومنى وأكرم والشاب دانيال. 


فعلى الرغم من ظروف لقائهما الدرامية (سوء التفاهم الذي سرعان ما تحول إلى دراما). منى وجوليا، لكنهما تشكلان معًا ثنائيًا رائعًا على الشاشة. ورغم أن علاقتهما هنا تدور حول سر درامي يدور حول زوج جوليا، إلا أن الفيلم سيظل ينجح في اللعب على نوع من التوتر المنتشر في كل مكان. 


التوتر الذي سيقترب منا على مر السنين (نحو عشر سنوات) دون أن ندرك أنه يبلغ ذروته، وإلى جانب رسالته وشخصياته القوية والمحبوبة، فإن فيلم محمد كردفاني الطويل يتتبع تطور جوليا وابنها دانيال، اللذين ترحب بهما منى (وزوجها أكرم)، ويتطوران مع مرور السنين، دون تلويث أو استعجال في خيط السرد.  



كل ذلك بإيقاع طبيعي، مما يسمح للمشاهد بفهم الطبيعة الجديدة للعلاقات بين الشخصيات، وكذلك الصراع الذي ينمو في السودان.، ويمكن ملاحظة أن التسلسل الزمني للفيلم تم وضعه بذكاء على الأحداث المهمة التي أدت إلى هذا الانفصال الحتمي للبلاد.


أمجد أبو العلا، مخرج فيلم "ستموت في العشرين" الذي أعاد نشاط السينما السودانية في العام 2019 للواجهة بعد فوزه في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي بجائزة أسد المستقبل، هو منتج فيلم كردفاني، وكلاهما قدما تصريحاً نسوياً قوياً، ففي حين يبدو العنف والفخر الأعمى راسخين بشكل لا يمكن تجنبه في العالم الذكوري، يظهر التعاطف والدقة في التعامل مع الصراعات كميزات حصرية للنساء من فريق عمل من الرجال.

 



وعلى الرغم من أن الفيلم قاسٍ للغاية من الناحية الإنسانية، إلا أنه لا يزال يُظهر لنا هذا الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي لا يزال قائمًا في هذه المنطقة. لكن "وداعا جوليا" يعمل هنا بدقة معينة على أن العلاقة الودية شبه العائلية ممكنة تمامًا عندما تتعرف على الآخر. 


نجاحات "وداعا جوليا"

 


فاز الفيلم مؤخرا بجائزة الأفق الذهبي بمهرجان هوليوود للفيلم العربي بكاليفورنيا، وسجل مسيرة مبهرة بالمهرجانات العالمية ودور العرض السينمائية في مصر والسعودية حيث حظي بنجاح لا مثيل له في تاريخ السينما السودانية وسجل الفيلم أعلى إيرادات لفيلم عربي في تاريخ شباك التذاكر المصري، ما يجعله فيلمًا جديرا بالمشاهدة ومدخلًا مهمًا لفهم التطورات السياسية في السودان.

 



وبدأت مسيرة الفيلم بالعرض العالمي الأول له في أيار (مايو) الماضي بـمهرجان كان السينمائي ضمن قسم نظرة ما، حيث فاز بجائزة الحرية، ثم انطلق بعدها في مسيرة طويلة حصد خلالها 28 جائزة دولية، منها 8 جوائز جمهور، آخرها جائزة الجمهور التي حصل عليها من مهرجان إيبيزا للسينما المستقلة بإسبانيا، وجائزة سينما من أجل الإنسانية (جائزة الجمهور) من مهرجان الجونة السينمائي بمصر.


عودة السينما السودانية

 
تم تصوير أول فيلم في السودان عام 1910، وتمثل في تصوير رحلة صيد قام بها مخرج الفيلم، الذي تم عرضه في شباط (فبراير) 1912 بمدينة الأبيض، التي كانت أول مدينة سودانية تشهد عرضاً سينمائياً.


وفي عام 1924، تم إنشاء أول دار للعرض السينمائي بمدينة الخرطوم، استمرت حتى نهاية عصر السينما الصامتة، ليتم بعد ذلك إنشاء دار للعرض خاصة بالأفلام الناطقة بالسودان في العام 1930.


وشهد العام 1949، إصدار قانون لصناعة السينما تزامناً مع بناء أول وحدة لإنتاج الأفلام بالسودان، تحت اسم "مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائي"، وكان خاضعاً للاستعمار البريطاني، الذي خصصه لإنتاج الأفلام الدعائية إلى جانب مجلة نصف شهرية الغرض منها استعراض بإنجازات الاستعمار.


ومع استقلال السودان عام 1956، أنتج أول فيلم تسجيلي في السينما السودانية، من إخراج كمال محمد إبراهيم، بعنوان "الطفولة المشردة"، وإلى جانب دور السينما، عرف السودان نوعا آخر من دور العرض، ويتعلق الأمر بالعربات السينمائية المتجولة، التي بدأت نشاطها ما قبل الاستقلال، فكانت تتجول في مختلف أحياء السودان، وتعرض أفلاماً تصويرية وإخبارية عن الاحتلال البريطاني، ونشاطاته في المستعمرات الخاضعة له، ووصل عددها إلى 16 عربة خلال فترة الستينيات، لكن محتوى العرض تغير بعد التخلص من الاستعمار، وأصبحت تعرض أفلاماً عن التوعية الصحية.


في العام 1970، شهدت السودان إنتاج أول فيلم روائي طويل تحت عنوان "أحلام وآمال"، من إخراج حسين ملاسي، ليليه بعد عامين إنشاء قسم للسينما بوزارة الثقافة والإعلام، وصدر بعد 4 سنوات ما يعرف بـ "الرقابة السودانية"، التي منعت فيلم "الشروق" لمخرجه أنور هاشم من العرض.


ومع قدوم ثورة الإنقاذ الوطني في 1989 دق آخر مسمار في نعش السينما السودانية، وأصبحت دور العرض المتبقية تبث فقط الأفلام الهندية، مع إجبارها على بقاء الأضواء مشتعلة في القاعات أثناء العرض.


وحتى العام الحالي 2018 لم يتجاوز عدد الأفلام السودانية في الفترة بين 1970 حتى 2009 إلا 7 أفلام روائية طويلة فقط، أهمها فيلم "تاجوج" الصادر في العام 1980 وفيلم "بركة الشيخ" في العام 1998 من إخراج جاد الله جبارة، ووصل عدد دور العرض بالسودان إلى 7 دور، مقابل أكثر من 40 مليون نسمة. 


 وفي العام 2018 عادت السينما السودانية بعد 25 عاما تقريبا من الاختفاء لتظهر من جديد من خلال أسبوع النقاد بمهرجان فينيسيا السينمائي، عبر فيلم "أكاشا" للمخرج السوداني حجوج كوكا.

 

وفي العام 2019 قدم المخرج السوداني أمجد ابو العلا "ستموت في العشرين" ليكون الفيلم التاسع والذي حقق جوائز عالمية منها فوزه بمهرجان فينيسيا بجائزة اسد المستقبل والجونة السينمائي وآخرها أيضا في "أيام قرطاج السينمائية" وجوائز أخرى مستمرة في جولته في دور العرض الكبير عالميا، إلى جانب الفيلم السوداني الوثائقي "الحديث عن الأشجار" لمخرجه صهيب قاسم الباري.


وتقدم السينما السودانية، من خلال هذه الأعمال، مثالًا على كيفية استخدام الفن لمعالجة وتفسير القضايا الاجتماعية والسياسية، مؤكدة دورها كأداة للتغيير والتأثير الثقافي.

 

كردفاني في "وداعا جوليا"، ينقلنا إلى خلفية الخرطوم وسط التوترات التي رافقت استقلال الجنوب، ويقدم رؤية فنية تحاكي الواقع السوداني بكل تعقيداته من خلال عدسة تركز على الحياة اليومية والتحديات الاجتماعية.

 

اقرأ أيضا:

المخرج كردفاني لـ"الغد": وداعا جوليا" تحية لكل النساء ذات الأثر الإيجابي