أثر سحرها

منذ أربع عشرة سنة خلت، وأثناء مزاولتي عملي في برنامج محو الأمية القانونية للنساء، في إحدى المناطق الشعبية من عمان جاءتني ذات صباح ماطر امرأة ثلاثينية، تجر وراءها كومة أطفال بثياب رثة وهيئة بائسة، لم يتجاوز أكبرهم العشر سنوات، كانت ملامحها حزينة جدا وتعبر عن عجز وحيرة.

اضافة اعلان

انخرطت المرأة في نوبة بكاء هستيري حال جلوسها قبالتي، فيما كان صغارها يحاولون الالتصاق بها وهم يتطلعون في أرجاء المكتب بارتياب وحذر، كانت آثار الضرب واضحة على وجهها المتورم وعينها اليمنى المنتفخة، فيما الكدمات والرضوض بادية على ساعديها.

أفادت تلك السيدة بأن زوجها عصبي جدا وسريع الغضب (وإيدو والكف)، وأنها تعاني من هذا الوضع منذ أول أيام زواجها، لكنها وصلت إلى درجة تفوق قدرتها على الاحتمال، وأصبحت تخشى على حياتها، وأنها حائرة وتريد حلا، حاولت إقناعها بضرورة الحصول على تقرير طبيب شرعي يثبت تعرضها للأذى، والتقدم بشكوى بحقه حتى ينال جزاءه المنصوص عليه قانونا، غير أنها مانعت بشدة، خشية أن يرمي عليها يمين الطلاق ما يعني أنها ستتشرد وأولادها في الشوارع؛ لأنها مقطوعة من شجرة.

قدمت لها المشورة القانونية اللازمة وأوضحت لها بتبسيط شديد النصوص القانونية التي تحمي حقوقها، لكنها ظلت على موقفها، اقترحت عليها توسيط أحد الأقارب، ردت: أهله أصل البلى يا أستاذة! طيب أحد الجيران، قالت: الجيران يعرفون بحالي لكن لا أحد يجرؤ على التدخل؛ لأنهم يعرفون كم هو شراني! لم أستغرب ردها لأني أعرف بحكم تجربتي أن ثمة من يعتقد أن هذا الوضع طبيعي جدا، ومقبول جدا، ضمن بيئة غارقة في الجهل والتخلف والفقر.

وحين استنفدت جميع الوسائل المتاحة لمساعدتها، توصلت إلى أن المرأة ليست جادة في اتجاه اتخاذ أي إجراء قانوني، وأنها كانت فقط بحاجة للفضفضة. سألتها عما تنوي فعله قالت باستسلام: لا شيء سأذهب إلى أحد الشيوخ كي يفك عنه الحجاب لعله يعود إلى رشده، لأن (بنت عمه العانس حجبت له حتى يكرهني وأولاده).

غادرتني المرأة مصحوبة بصغارها ولم تعد ثانية. تذكرت حكاية تلك السيدة منذ أيام، وأنا أتابع أخبار جريمة المصطبة في محافظة جرش، التي راحت ضحيتها امرأة ثلاثينية أم لثلاثة أطفال على يد زوجها، الذي اعترف انه أقدم على فعلته تلك؛ لأن مشعوذا أبلغه أنه سيموت حتما جراء السحر الذي عملته زوجته وأدى إلى انقلاب حياته إلى جحيم، وارتأى أن يطلق ثلاث رصاصات على رأس زوجته وهي نائمة، وسيلة للخلاص من أثر سحرها، وذلك في أول أيام الشهر الفضيل!!

وتساءلت ترى أين وصل الحال بتلك المرأة ذات الوجه المتورم بعد كل تلك السنين، هل ماتزال حية ترزق أم أن زوجها العصبي أزهق روحها في ثورة غضب، وهي ترقد الآن في مقبرة ما بعد أن نالت راحتها إلى الأبد، وماذا حصل بأولئك الصغار الذين التصقوا مرعوبين بثوب أمهم في ذلك الصباح الشرق عماني الممطر، هل أتيح لهم أن يحظوا بأي فرصة لعيش كريم، وتعليم لائق أم أنهم نزلاء دائمون في الإصلاحيات والسجون، والشهادات الوحيدة التي تمكنوا من الحصول عليها تلك التي تفيد بأنهم أصحاب سوابق!!

الرحمة لروح سيدة المصطبة التي راحت ضحية للجهل وضيق الأفق، وأعان الله صغارها الذين دخلوا عالم اليتم الموحش مكرهين، والمحزن في الأمر أنهم وحدهم من سيسدد الثمن الباهظ لإثم لم يرتكبوه، رمضان كريم!

[email protected]