إرهاب بالي ومعاقبة إندونيسيا

أن تتعرض اندونيسيا، وبالي تحديداً، لمجزرة ارهابية بعد ثلاث سنوات على المجزرة التي أودت بأكثر من 200 قتيل، فهذا مَـثـَل لا تعوزه البلاغة على وظيفة النشاط الجرمي هذا، وعلى أن هدفه الأول إفقار بلدان المسلمين ومعاقبة من ينجح منها على محاولته النجاح. وفي المعنى هذا، تتضح سخافة من يدعون بين وقت وآخر الى "محاورة" الارهابيين وهم لا يملكون، أصلاً، البرنامج والشعارات التي يقوم حولها الحوار! وهي دعوة لا صلة لها، على أية حال، بالمطالبة العادلة والعاقلة بمعالجة المسائل الاقتصادية والسياسية المتسببة بالارهاب، او المؤدية الى تفاقمه.

اضافة اعلان

ولا بأس، بداية، من التذكير بالصعاب والمحن التي واجهتها اندونيسيا في السنوات القليلة الماضية: من الأزمة المالية الآسيوية التي ضربتها بعنف في 1997، الى الفوضى التي تلت اسقاط الديكتاتور سوهارتو بعد 32 عاماً من سلطته المطلقة، ومن خسارة تيمور الشرقية التي انتصرت حركتها الاستقلالية في 1999، الى صعود المطالب الاثنية والاستقلالية التي اندلعت في سائر المقاطعات وقد شجّعها ما أحرزته تيمور الشرقية، ومن انفجار نزاعات اثنية ودينية الى التعرض لإعصار تسونامي الرهيب أواخر 2004 والذي خلّف، من الاندونيسيين وحدهم، أكثر من 220 ألف قتيل ومفقود. والحال ان الارهاب اختار لنفسه أن يكون الذراع الضاربة التي تحول دون شعور الاندونيسيين بأن مستقبلاً أفضل ينتظرهم، وان في وسعهم بلوغه. وكل من يملك أدنى إلمام بذاك البلد يدرك غنى الخصائص التي تخوّله أن يصير أحد أغنى بلدان العالم. فهذه القارة المصغرة، الممتدة على شكل أرخبيل من آلاف الجزر، تقع بين آسيا واستراليا، ويعيش فيها 225 مليوناً يشكلون الدولة المسلمة الأولى عدداً في العالم. بيد أن السكان هؤلاء ينطوون على تعدد اثني ولغوي مدهش؛ حيث هناك أكثر من 300 لغة محلية، فيما تتفاوت وظائف الشعب الاندونيسي بين الزراعة والصيد وجمع البذور في الأرياف وبين المهن الحديثة و "الغربية" في المدن. وهذا جميعاً ما سمح بتعدد الصادرات الاندونيسية بحيث شملت، فضلاً عن النفط والغاز الطبيعي، المنسوجات والمطاط وزيوت النخيل بكميات ضخمة.

وقد جاءت المحاولة الأولى لتفعيل هذه الخصائص مع إطاحة الجنرال سوهارتو واعتماد نظام ديموقراطي، إذ أجريت، للمرة الأولى منذ الستينات، انتخابات حرة في البلد. ذاك ان سوهارتو الذي وصل الى السلطة بانقلاب عسكري في 1965، أطلق يد العسكر في سائر مستويات الحياة الاجتماعية، من تقرير شؤون القرى وصلاحيات أعيانها صعوداً. ولئن أنجز عهده بعض نجاحات اقتصادية لا تُنكر، فيما تولى التكنوقراط ادارة اقتصاد البلد شرط دفع "الضريبة" للمجتمع العسكري، فإن الفساد الذي تأسس آنذاك جاء فلكياً. وقد تجسدت احدى الكوارث التي خلّفها العهد المذكور في سياسة "الهجرة الداخلية" التي أدت الى نقل أعداد سكانية ضخمة من مزارعي جافا المفقرين الى مناطق أخرى في أندونيسيا، الأمر الذي أسس حدّة وتوتراً غير مسبوقين في العلاقات الاثنية.

واستطاع الاندونيسيون بقدر من التعثّر تجاوز بعض مشكلاتهم. وفي ايلول 2004 أجروا أول انتخابات رئاسية في تاريخهم، مباشرة وبالتصويت الشعبي، بعد اقتراع البرلمان مرتين للرئيسين عبدالرحمن وحيد وميغاواتي سوكارنو. وعلى النحو هذا أوصلوا العسكري السابق سوسيلو بامبانغ يادهويونو الى رئاسة الجمهورية في ما وُصف بأنه أول انتقال سلمي للسلطة تعرفه اندونيسيا منذ وحّد الاستعمار الهولندي جزرها وجعلها، في 1900، دولة واحدة.

وفي الغضون هذه حققت الحريات الصحافية نقلة واسعة الى الأمام، بعدما كانت وزارة الاعلام في عهد سوهارتو تراقب سائر الأنشطة الاعلامية، الداخلية منها والخارجية. وتوسعت، كذلك، السوق التلفزيونية لتضم عشرة قنوات تجارية تتنافس مع المحطة الحكومية "تلفزيون الجمهورية الاندونيسية". كذلك، بات عدد من الأقاليم يملك تلفزيونه الخاص الذي ينقل همومه واهتماماته المحلية. وبدورها، فإن محطات الراديو غدت هي الأخرى تبث أخبارها وتعليقاتها المستقلة، فيما يسعى المراسلون الأجانب إلى تزويدها بالبرامج على أنواعها. وهناك اليوم أكثر من 60 محطة اذاعية في العاصمة جاكرتا وحدها. كذلك، قدرت السلطات في وقت يعود الى 2003 ان ثمة أكثر من ألفي محطة تلفزيونية واذاعية غير شرعية تعمل الى جانب الشرعية. وكانت الحكومة إذّاك تحثّ القيّمين على تلك المحطات على طلب الترخيص أو مواجهة احتمال الاغلاق. وتبعاً لأرقام تعود الى 2004، وُجد هناك أكثر من عشرة ملايين مستخدم لشبكة الانترنت، فيما سائر المعطيات يشير الى وجهتها التصاعدية.

وبالمعنى هذا، لا تُفهم الضربة الارهابية الأخيرة الا بوصفها استهدافاً للنجاح، خصوصاً ان توجيهها الى القطاع السياحي يصيب الاقتصاد الاندونيسي في الصميم، فيما يطيح بانفتاح البلاد وثقافتها على العالم الخارجي.

فحين نتذكّر الصلة بين جماعات الارهاب الأصولي في أندونيسيا، لا سيما منها "الجماعة الاسلامية" المتهمة بالارتكاب الأخير، وبين التجربة الجهادية في أفغانستان الطالبانية، نفهم تتمة القصة الدامية. ذاك أن التجربة المذكورة التي أعادت بلدها الى الصفر، اجتماعياً وثقافياً ولجهة وضع المرأة والاتصال بالعالم الخارجي، ترى في بالي كل ما تكرهه: من كونها بؤرة هندوسية داخل نطاق إسلامي أعرض، الى قيامها بالربط بين قارتين وشعبين وثقافتين (فيما الطرف الآخر الذي يتم الربط به هي أستراليا المسيحية وذات التكوين الغربي)، انتهاء بدورها كواحدة من حواضر السياحة العالمية. والإرهاب الأصولي، الضيق الأفق والمناهض للغريب والمختلف، لا يجد موضوعاً للكراهية كما يجده في السياحة.

كاتب لبناني مقيم في لندن