إنها المجتمعات والثقافات يا غبي

هل كان في وسع الرئيس اليمنيّ علي عبد صالح أن يحيّر الرأي العام العربي لو أن ريحاً ديمقراطيّة جدّيّة تهبّ على المنطقة؟

واقع الحال أن تلك الحركة لا تملك أيّة فائدة تتعدّى دلالتها على طبيعة المرحلة، وربّما الى أمد بعيد نسبيّاً، على طبيعة المنطقة. أما في ما خلا ذلك، فإن رائحة الحركة الميلودراميّة تعفي من تناول الموضوع جملةً وتفصيلاً.

اضافة اعلان

لكن العودة الى الترشّح للرئاسة "تحت ضغط الجماهير"، بعد كل تلك "الهيصة" الديمقراطيّة التي رافقت التقدّم الأميركيّ باتجاه العراق، توحي أن الخلل أعمق مما قد يتصوّره المرء، وأن المسافة التي تفصل أيّاً من بلداننا عن الديمقراطيّة أطول مما قد يتبادر الى أذهاننا.

فقد سقطت، بادئ ذي بدء، تلك السخافة التبسيطيّة الأميركيّة القائلة إن العرب، في مجرّد أن يُزاح الحكّام المستبدّون، سيهرعون الى عناق الديمقراطيّة، مثلما فعل الألمان واليابانيّون بعد الحرب العالميّة الثانية، أو كما فعلت شعوب أوروبا الوسطى ونُخبها بعد الحرب الباردة. وهكذا بدأ بعض المحلّلين الأميركيين، على ما تدلّ طاولة مستديرة نُشرت أعمالها في العدد الأخير من فصليّة "فورين أفيرز"، يفكّرون في نموذج آخر يطبّقونه على العراق، هو يوغوسلافيا ما بعد الحرب الباردة. وأغلب الظن أنهم، هنا أيضاً، سوف يتراجعون ويتيقّنون من أن العراق هو العراق، لا هذه التجربة الأوروبيّة ولا تلك الآسيويّة.

وقصارى القول إن انتكاسة التبسيط الأميركيّ تُرجعنا الى أحوال المجتمعات العربيّة وثقافاتها، هي التي مكّنت الرئيس اليمنيّ، بعدما مثّلها ونطق باسمها، من أن يفعل ما فعله. لكنّنا، في المقابل، بدأنا نسمع في الفترة الأخيرة، عبر تصريحات سياسيّة وتغطيات صحافيّة ومقالات لكتّاب ومثقفين عرب، أصداء انزعاج من "التخلّي الأميركي عن الأجندة الديمقراطيّة". وهو انزعاج اتخذ لدى البعض شكلاً مشوباً بالمرارة عبّر عن نفسه في غير صيغة:

فهناك من أعاد التذكير بسيرة الولايات المتحدة الامبرياليّة، وهناك من أعاد الى الواجهة البديهةَ القائلة إن الدول الكبرى لا تتبع إلا مصالحها. ولم يخلُ الأمر، على ما هي العادة، من إحالة الى المواقف الأميركيّة من النزاع العربي-الاسرائيليّ للتأكيد على أن واشنطن لا تريد لنا الخير بإطلاق. وبالطبع ظهرت تلميحات الى عجز الولايات المتحدة في العراق عن إقامة النموذج الديمقراطي، وغنيٌ عن القول إن من لا ينجح في إقامة النموذج الأصليّ لن ينجح في تعميمه وتوسيع نطاقه.

لكن ما يُستحسن التركيز عليه، بدلاً من النواح على الديمقراطيّة وتوجيه الشتائم الى الولايات المتحدة من قِبل من كالوا لها المدائح قبلاً، أن منطقتنا غير مُعدّة للديمقراطيّة، وغير مُعدّة للتعامل مع التسامح وثقافة حقوق الانسان بوصفهما همّاً طاغياً.

والأمر ليس عنصريّة يُرمى بها العرب، ولا هو، بطبيعة الحال، دفاعاً عن المستبدّين وأنظمتهم. فالموضوع تاريخيّ، مرهون بظروف وعناصر معيّنة بما يوجب مقاربته بعيداً من العاطفيّة، وكذلك بعيداً من جموح الرغبات الذاتيّة أو الانتقام لكرامة مساواتيّة جريح.

ولا بأس هنا بمقارنة دالّة: فهل يستطيع دعاة الديمقراطيّة والحريّات وحقوق الانسان أن يُنزلوا الى الشارع، في أيّة مدينة عربيّة، عُشر العدد الذي يُنزله المعترضون على الرسوم الكاريكاتوريّة الدانمركيّة، أو سنّة متعصّبون يحرّضون على الشيعة، أو شيعة متعصّبون يحرّضون على السنّة، أو قوميّون-دينيّون يحرّضون على رمز غربيّ ما، كي لا نقول: على الغرب نفسه؟

أما في السياسة الفعليّة فكنا رأينا في الفترة الأخيرة مقاتلي"المحاكم الشرعيّة" في الصومال يُحكمون القبضة على بلدهم، بينما لم نرَ النساء الكويتيّات يصلن الى مقاعد البرلمان الكويتيّ. فإذا صحّ أن اقتراعهن وترشّحهن مكسب مؤكّد، بقي أن النجاحات التي أحرزها الأصوليّون تُسبّب من المخاوف ما يفوق كثيراً الاطمئنان الذي يثيره صعود المرأة السياسيّ. ولا بأس بالتذكير، هنا، ووراءنا كمٌّ هائل من التجارب، أن اندفاع الأمور في بلد ما الى الجذريّة والعنف يُبطل مفاعيل النساء والمثقفين والطبقات الوسطى عموماً، فيما العديدون من هؤلاء يغادرون البلد الذي يُترك أمره لمن يحمل البندقيّة.

والى ذلك كلّه، يلعب استمرار الصراع الفلسطينيّ- الاسرائيليّ دوره الضخم في استكمال جوانب القصور لدينا. وها هي الأحداث الدراميّة في غزّة، بما تنطوي عليه من عنجهيّة إسرائيليّة قصوى، تقول لنا باللسان الفصيح أنه ما لم يُقفل الملفّ هذا، في صورة أو أخرى، فإن أعصاب المنطقة ستبقى مشدودة متوتّرة. والديموقراطيّة السليمة يلزمها استرخاء في الأعصاب يتيح الفرصة للانكفاء على هموم الحياة اليوميّة بحقوقها وحريّاتها واقتصادها وتعليمها.

وفي آخر الأمر، لنا أن نشكر الرئيس علي عبد الله صالح لأنه أيقظنا من نومنا على الحلم الديموقراطيّ ودلّنا إلى الطبيعة الفعليّة للمرحلة التي نعيش. فهي المجتمعات والثقافات يا غبي (تيمّناً بشعار بيل كلينتون: "إنه الاقتصاد يا غبيّ"). ويُستحسن بنا إذ ندرك الحقيقة هذه أن نفكّر بطرق أخرى أقلّ ثوريّة واستعجالاً، لكنّها، في الآن نفسه، أشدّ إصراراً على نقد الذات وما تنطوي عليه، بولاءاتها العصبيّة والايديولوجيّة، وخرافاتها المترسّبة عن الوثنيّة، وتعليمها الرديء البدائيّ، ولاعقلانيّتها في ما خصّ مفاهيم النفع والفائدة. فهناك الكثير من النقد الذاتيّ ينتظرنا من أجل أن نحرز القليل الذي من دون إحرازه لن نصل أبداً الى الديموقراطيّة.

كاتب لبناني