اقتصاديّات العزلة

لا يزال يُلاحظ، على رغم انقضاء عقد ونصف العقد على انهيار الاتحاد السوفياتي وبلدان معسكره الاشتراكيّ، ان النقّاد اليساريّين للرأسماليّة، الشعبويّين منهم وبعض غير الشعبويّين، يحنّون الى ذاك النموذج الاقتصاديّ الذي فشل ثم ذوى وانهار. وربما فسّر ردَّ فعلهم المستمر على رغم كلّ البراهين العمليّة المعاكسة، ان الرأسماليّة التي انتصرت بنهاية الحرب الباردة ليست من النوع الذي يثير حماسة الدفاع عنه. فهي ثأريّة من جهة، بمعنى انها استخدمت الحاق الهزيمة بالشيوعيّة كي تنتقم من مكاسب اجتماعيّة وعقلانيّة تم احرازها على مدى عقود طويلة. وانها، من جهة أخرى، ترتدّ في أوجه كثيرة الى ما قبل الشيوعيّة، بل الى ما قبل الرأسماليّة نفسها: هكذا تتبدّى ماليّة مهجوسة بالأرباح السريعة التي تؤمّنها البورصة، أكثر منها رأسماليّة تبني العالم على صورتها ومثالها، كما تلوح مهجوسة بالنموّ، قليلة الحفول بالتنمية.

اضافة اعلان

مع هذا، ينمّ الحنين الى نظريّات التبعيّة التي سبق أن روّج لها عدد من الاقتصاديّين اليساريّين في الستينات، عن هيمنة النزوع الايديولوجيّ (القطع مع الغرب) على اعتبارات المنفعة الاقتصاديّة، أو على التعلّم مما جرى في غير مكان من العالم بما في ذلك الأكلاف الانسانيّة، الهائلة في بعض الحالات.

لكنْ لا بأس، بادىء ذي بدء، من التذكير بأن النموذج المعاكس تماماً لنظريات التنمية عبر القطع مع الغرب، إنما قدّمته بلدان التنانين والنمور الآسيويّة، التي كانت الوحيدة التي نجحت في اعتماد الرأسماليّة "الغربيّة" في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد نجاح جارتها الكبرى، اليابان، في نصفه الأول.

وحين نقول "النموذج المعاكس"، يكون المقصود تحديداً وحصراً ان تنمية البلدان تلك لم تمرّ بالعزلة والنزعة الحمائيّة ومزاعم الاكتفاء الذاتيّ والتأميم، ولا بالاستغناء عن السلع المستوردة، ولا طبعاً باستعمال أفكار التعصّب القوميّ، الملوّن اشتراكيّاً، ضدّ المستثمر الأجنبيّ.

فقد استفادت تلك البلدان من حريّة الأسواق الرأسماليّة، فراهنت على الاستيراد وأرفقته بتفعيل ميزتها الخاصّة، أي الرخص النسبيّ لليد العاملة فيها، ما سمح لها بمنافسة البلدان الصناعيّة الغربيّة نفسها في عقر دارها.

في المقابل، فإن إحداث التنمية بالقطع مع الغرب والرأسماليّة سار دوماً يداً بيد مع تحكيم الايديولوجيا في النظام الاقتصاديّ، واعتماد التخطيط البيروقراطيّ الشامل الذي، بحكم طبيعته، يفتقر الى دليل السوق (وهو أصلاً لا يقرّ بمرجعيّتها).

ولمّا كانت التوظيفات والاستثمارات الأجنبيّة استعماريّة الطبيعة واستغلاليّتها، بموجب ذاك التحليل، ولما كان هدفها الوحيد (على ما "برهن" لينين مبكراً) نهب البلدان التي تفتح لها ذراعيها، وجبت مقاطعة الاستثمارات تلك. بيد أن النقص والقصور سيكونان، والحال هذه، النتيجة التلقائيّة لاستبعاد المقاولين الأجانب. هكذا تنضب الرساميل وتنكمش الكفاءات، أو تنعدم، بينما تسود محاولات فاشلة لتقليد العمليّات المرتكزة على عمل التقنيّة المتقدّمة. ذاك ان تعلّم التقنيّة، بحسب أحدهم، مثل تعلّم اللغة: لا تصحّ في ظلّ مقاطعة الذين يتكلّمونها، بل تتسارع المعرفة بها

تحديداً في ظلّ الاحتكاك بمتحدّثيها.

وتترتّب على النهج المذكور نتيجة أخرى لا تقلّ خطراً عن سابقاتها: انها الافتقار الى مرجع يصار على ضوئه الى تحديد الأسعار واقعيّاً أو الى قياس المردوديّة.

وعلى نحو خاصّ رأينا كيف انعكس هذا البؤس على القطاعات الزراعيّة في غير بلد شاء القطع مع الرأسماليّة، فكان بوار وإفلاس نجم عنهما ما نجم من مجاعات ووفيّات طاولت الملايين في الاتّحاد السوفياتيّ السابق وفي الصين، فضلاً عن عدد من البلدان الافريقيّة أريافاً ومدناً. ففي هذه البلدان جميعاً، وعلى تفاوت في الأزمنة والنتائج، جرت غير محاولة لخفض أسعار الموادّ الزراعيّة بقوّة التدخّل البيروقراطيّ. ولئن بُرّرت خطوات كهذه بإطعام الفقراء وتأمين الغذاء لسكّان المدن (بحيث لا يتمرّدون على السلطة)، فالنتيجة كانت عزوف الفلاّحين، وقد صاروا يفتقرون الى الحوافز، عن الانتاج.

وقد بات من الشائع نقد تلك العقليّة الايديولوجيّة-الاقتصاديّة انطلاقاً من قضائها على روح المبادرة وثقافة المقاولة، وإشاعة الكسل لدى المواطنين لأن الجميع "مضمونون" في أساسيّات حياتهم، ولكنْ أيضاً إشاعة الرشوة والفساد في ظلّ انعدام المنافسة والمراقبة سواء بسواء. وهذا لئن نجم عن مذهب الاكتفاء الذاتيّ والاقتصاد الحمائيّ، فإنه ضرب التجديد التقنيّ في الانتاج وأودى بجودة المنتجات.

وغالباً ما يجد هذا النهج، حتى وهو يتسمّى بالاشتراكيّة الأمميّة، تتمته في ايديولوجيا قوميّة متشدّدة، وأحياناً مسعورة في تصعيدها الكراهيةَ للغريب. ذاك أن الغريب مشبوه ومتآمر وامبرياليّ ونهّاب، ومؤخّراً صليبي! ويلعب مبدآ التأميم والقطع مع الغرب جسر التلاقي بين التوجّهين الاشتراكيّ والقوميّ المتعصّب وصولاً الى… بؤس ظافر.

كاتب لبناني مقيم في لندن