الأهليّ يغلب الإيديولوجيّ دائماً

إن ما جعل الانقسامات الأهليّة العربية وشهوة الجماعات الى السلطة أقوى من كلّ غرض آخرهوعجز القوى المذكورة عن تطوير فهم بديل يُحتكَم إليه للشرعيّة السياسيّة والدستوريّة

اضافة اعلان

من الحقائق المهمّة التي يسهو عنها الفكر السياسيّ في منطقتنا غلبة الأهليّ على الإيديولوجيّ، أي غلبة الرابط الدمويّ وامتداداته، الدينيّة أو الطائفيّة أو الاثنيّة، على القضايا التي غالباً ما نصفها بالسياسيّة والوطنيّة وغير ذلك. وأغلب الظنّ أن التشدّق المبالغ فيه بالقضايا يُخفي، في واقع الحال، انشدادنا الفعليّ لعوامل أخرى، ومن ثمّ استخدام تلك القضايا المعلنة ذرائع لتلك العوامل المسكوت عنها.

لنلاحظ، مثلاً، بعض الأحداث التي تعصف بالعالم الإسلاميّ اليوم:

ففي الصومال يمكن أن تتجدّد الحرب الأهليّة بين أطراف تجمع بينها إسلاميّةٌ ما وقتال ضدّ الإثيوبيّين. يجري هذا فيما الفقر والتفكّك طرحا ويطرحان وجود البلد نفسه على المحكّ، على ما تنمّ عن ذلك ظاهرة القراصنة البحريّين. لقد غدا الصومال الكيان الذي يُضرَب فيه المثل عن "الدول الفاشلة"، ومع هذا، ومع وجود قواسم مشتركة كثيرة، أقلّه افتراضيّاً ونظريّاً، بين الأطراف المعنيّة، فإن الأطراف تلك تمضي في احترابها غير هيّابة ولا متردّدة.

وفي باكستان، تنزع حكومة "حزب الشعب" ما سُمّي "الأهليّة السياسيّة" عن نوّاز شريف، فتمنعه تالياً عن خوض الحياة السياسيّة وانتخاباتها، هو الذي شارك الحزب الحاكم تأسيس الحقبة الديمقراطيّة المستعادة إثر جريمة اغتيال بنازير بوتو. ليس هذا فحسب، إذ يجري ذلك فيما باكستان الديمقراطيّة تجدّد انخراطها في "الحرب على الارهاب" التي تستدعي توسيع رقعة الدعم لتلك الحرب ولقيادتها السياسيّة.

وكنّا رأينا في العالم العربيّ كيف أن تحدّي الاستيطان الاسرائيليّ الذي يقضم، فضلاً عن الأرض، احتمال قيام دولة فلسطينيّة، لم يردع حركتي "حماس" و"فتح" عن قتالهما الدمويّ الذي لم تنجح الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على غزّة في وقفه. وقبل ذلك لم ينجح الاحتلال الأميركيّ للعراق في حمل من يسمّون أنفسهم مقاومين لذاك الاحتلال على إحراز أيّ درجة من التوحّد في ما بينهم، لا بل كانت وظلّت أقسى الحروب العراقيّة هي التي تُخاض في ما بينهم بلحم العزّل الأبرياء من ذويهم. لا يصحّ هذا على السنّة والشيعة منهم فحسب، بل يطاول أيضاً السنّة والسنّة كما يطاول الشيعة والشيعة.

ولمَ لا نذهب أبعد، ملاحظين أن الطرف الإسلاميّ الواحد في السودان انشطر طرفين يحكمهما عداء مرّ، أحدهما يجد مرجعه في الرئيس عمر البشير والآخر في الزعيم الروحيّ حسن الترابي. لكنّ الأكثر إدهاشاً أن أحداثاً هيوليّة يعيشها ذاك البلد، من أوضاع الجنوب إلى حرب دارفور، وأخيراً احتمال إقدام المحكمة الدوليّة على التوصية باعتقال البشير، لم  يسعها تضييق ذاك الخلاف بين من تفرّعوا عن أصل إيديولوجيّ واحد. وهذا ما قد يكون تكراراً حرفيّاً للعلاقات التي عرفها في الستينات والسبعينات "حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ" وسلطتاه في سوريّة والعراق: عدد من الانقسامات وأعمال التشرذم داخل كلّ بلد وفي ما بين البلدين مما لم يلجمه زعم الوحدة العقائديّة.

حقيقة الأمر أن ما جعل الانقسامات الأهليّة وشهوة الجماعات الى السلطة أقوى من كلّ غرض آخر هو، بالضبط، عجز القوى المذكورة عن تطوير فهم بديل للشرعيّة السياسيّة والدستوريّة يُحتكَم إليه. وفي ظلّ عجز كهذا، لم يبق في الميدان إلاّ التشدّق بوحدة الدين أو القوميّة أو العقيدة ومعها طبعاً وحدة العداء لإسرائيل. بيد أن واقع الحال يقول إن هذه الوحدة اللفظيّة لا تُترجم نفسها على الأرض سوى عنف إقصائيّ بين "الأخوة". فمتى يذهب "الأخوة" ويأتي "المواطنون"؟