الإنسان أهمُّ

"المعرفةُ لا ترفع نسبة مشاهدة" الجمهور. هكذا علّقت، قبل أسابيع، الأستاذة الجامعية ومديرة المكتبة الوطنية في تونس رجاء بن سلامة، على استضافة قناة تلفزيونية تونسية مغنياً شعبياً مبتذلاً (أصبح منشداً دينياً ومن أنصار حركة "النهضة" بعدما "تاب") للتعليق على انتقادات حول التلوث البيئي في حديقة الحيوانات في البلفدير بوسط تونس، كان قد أثارها ضيف ياباني زار الحديقة وقدّم رأيه في برنامج "أمور جدية"، وهو من أكثر البرامج التلفزيونية مشاهدة في تونس. كان ردّ المغني الشعبي التائب بكل حماسة مفرطة: "تونس أفضل من اليابان؛ لأن أهلها مسلمون، والأخيرون يتفوقون بالرحمة على اليابانيين والبلدان الأوروبية كافة".اضافة اعلان
الحقيقة أن هذا المثال، في معانيه البعيدة، تعبير عن وعي شائع في المنطقة العربية، ولا يخص تونس وحدها، يعكس أزمة الهوية في أوضح تجلياتها، حيث يصبحُ المسلمُ أهمَّ من الإنسان؛ فالأول يتفوّق بدينه، حتى لو كان الآخر يعيش في بيئة أقل تلوثاً وأكثر اهتماماً بالصحة والتنمية والتعليم والغداء والرفاه!. أيْ إن مدخل إصلاح هذه الأزمة يكمن في الاعتراف بأن الدين ليس بخير ما دامت تأويلاته التي يصنعها الناس تحمل مظنة إهدار كرامة أو تضييع حقوق أو تفريط بحرية الإنسان واستقلال إرادته وعدم التفاني من أجل إسعاده في الدنيا.
ولعل هذا يقدّم مناسبة لإعادة النقاش حول أن أحد الاختلالات الأساسية في الفكر العربي والإسلامي المعاصر التي رسّخها فكر "الإخوان المسلمين" وجماعات الإسلام السياسي، (وأطياف من الفكر القومي أيضاً ولكن من أرضية أخرى) "وعي الهوية" هذا، الذي يتكئ على التمايز والمفاصلة والنقاء والتفوق وعدم الحاجة إلى الآخرين، "لأنّ ما في تراثنا وحضارتنا وقيمنا يكفينا"! ما يعني افتقار هذا الوعي لصفة "التواصلية"، و"التجدد بالآخر" وهي خصلة أساسية لأي تحضّر ونهضة وتنمية. بالإضافة إلى أن "وعي الهوية"، لا يفطن للطبيعة السيّالة للهوية، وتعددية الروافد التي تعيد تشكيلها وإنتاجها باستمرار، في جدلية دؤوبة وبنّاءة بين الأنا والآخر، وصولاً إلى تبني هوية منفتحة عَفيّة تقوم على الإعلاء من أهمية المشترك الإنساني وترسيخ القيم الكلية، من حريةٍ وعدالةٍ وخيرٍ ورحمة وسلام، وهي القيم المبثوثة في عموم الأصل الإنساني. هذا وعيٌ يثق بالإنسان، وليس بالمسلم فقط، ويُقدّم جانب الخيريّة في الإنسان ولا يحتكرها في دين أو قومية بعينها، وذلك على النقيض من "وعي الهوية" القائم على الطُهورية والتمركز حول الذات والشك بالآخر... شكٌّ يسيّغ الاقتناع بأن المسلم أهم من الإنسان!، وما يستتبعه ذلك، مثلاً، من عدمِ حزنٍ على كوارث ومآسي غير المسلمين، من زلازلَ وبراكين وفيضانات، بل اعتبار أنّ الله يعاقبهم بها!
مثلُ هذه البنية الفكرية كانت منبعاً أساسياً لنزعات التطرف والعنف؛ بتأسيسها وعياً يجعل المسلم في صراعٍ دائم مع الواقع والعصر، ويجعله يتبنى رؤية سالبة ومتشائمة تجاه العالم تتسم، كما يقول رضوان السيد، بالقطعية والقطيعة والطهورية؛ لأنها تغفل عن أنّ "الوعي لا ينتظم ويتواصل ويتجدد نتيجة حواريةٍ داخلية بين نصوصه ومقدساته ورموزه وتاريخه، بل يتسق وينتظم عندما يتجه الخارج المتنوع والمتكاثر لمحاورة ذلك الوعي، وتكون المفارقة عندما يتجه الآخر للتحقق من دونك... فلا تكون".