الـ"أولا" في سياسات المنطقة والأوطان

حين يقول أردني"الأردن أولاً"، أو يقول لبناني"لبنان أولاً"، فهذا ليس من صنف الدعوات الشوفينيّة التي تستبطن كره الآخر أو الاعتداء عليه أو ممارسة التعالي حياله.

اضافة اعلان

ذاك ان هذين البلدين الصغيرين وما قد يماثلهما من بلدان تبغي، من وراء شعار الـ"أولاً"، أن تؤكّد ذاتها بوصفها كيانات سياسية مستقلة وسيّدة. فهي، حتى لو أرادت ذلك، لا تملك القدرة على التوسّع خارج حدودها الإقليمية، ولا تملك الطاقة لترويع غيرها وإخافته. غير أنها، مع هذا، ما كانت لتختار هذه الطريقة لولا وجود قوى تشكّل خطراً على استقلالها وسيادتها. فليس ثمة من يطرح جواباً من دون أن يكون هناك سؤال، وليس ثمة من يختار أن يقول"أولاً" لو لم يكن الولاء للوطن موضوع استهداف من آخرين يريدون إحلال ولاءات أخرى محله.

ولا بد، هنا، من بعض الاستدراك والتوضيح اللازمين: فإذا كانت الـ"أولاً" لا تعني الشوفينية والتعصب، كذلك فإن"الولاء" المقصود ليس تلك الديانة الوطنية الجامعة المانعة، التي لا يشوبها نقد أو انشقاق، فيما تتحوّل الى ما يشبه التسليم الصوفي المغلق.

والحال أن الولاء، بالمعنى الإيجابيّ هذا، يفترض أمرين محددين: الإقرار، من جهة، بأن السياسة مصدرها الداخل الوطني ومعيارها مصلحة هذا الداخل على نحو قابل للقياس اقتصاداً وتعليماً وطبابةًً وسوى ذلك. ومن جهة أخرى، عدم تغليب مصالح دولة ثانية على مصالح الدولة نفسها، أكان سبب هذا التغليب نفعيّاً وماليّاً، أم كان إيدولوجيّاً بحتاً. وهنا يحضر فارق دقيق: فقد يرفض هذا الفرد أو ذاك نظام بلده لأسباب فكرية وسياسية، وهذا حقه الكامل الذي ينبغي أن يضمنه له الدستور، وأن تُتاح له، بالتالي، حريّة العمل السياسي على ضوئه. أما حين يكون الاختلاف منسّقاً مع طرف أجنبي، يخدم مصالحه، أو يكون مُعبّراً عنه بالعنف والقسر، فعند ذاك نقع في تعارض جليّ مع الولاء الوطني.

والاعتبارات هذه تتخذ شكلاً أخطر حين تكون العلاقة مع الطرف الخارجي المعنيّ محكومةً بمعادلة كالتي تنطبق على علاقة سورية بكل من الأردن ولبنان.

فليس مصادفاً إطلاقاً أن يكون حكّام دمشق وأصواتها السياسية والإعلامية أول من يتصدى لمن يقول "الأردن أولاً" أو "لبنان أولاً". ذاك أن النظام السوري يجمع، في ما خص جاريه الصغيرين، بين كونه نظام حزب واحد عسكرياً لا يحترم، بحكم طبيعته تلك، الاعتبارات الديبلوماسية أو القانونية، وبين كونه وريث تركة ايدولوجية تبقى حاضرة مهما أخفاها، مفادها عدم الإقرار بنهائيّة هذين الكيانين وبحقّهما في اتّباع السياسات التي يقرران، بمحض إرادتهما، اتّباعها. وغني عن القول إن الأردن لم يستطع، إلا مؤخراً جداً، أن يتوصّل الى ترسيم حدوده مع سورية، فيما لا تزال مشكلة الترسيم والحدود عالقةً مع لبنان، معطوفاً عليها عدم وجود تبادل ديبلوماسي بين البلدين، فضلاً عن أزمة مزارع شبعا الشهيرة. ولا نضيف جديداً حين نقول إن قدرة البلد الأكبر على التلاعب بالانقسامات الأهلية في البلد الأصغر، وعلى تجييرها لمصلحته، قائمة دائماً. فكيف في ظل ثقافة – بائدة في العالم كلّه وناشطة، للأسف، في هذه المنطقة من العالم – مفادها رفض الكيانات الصغرى بسبب تعارُضها المزعوم مع مصالح الكلّ العربي. فقد حملتنا التيّارات الفكرية الراديكالية التي سادت المنطقة تباعاً، من قومية ويسارية وإسلامية، على النظر بعين الريبة والتشكيك الى بلدان تعاقديّة تحاول النسج، ما أمكن، على منوال ديموقراطي، والنظر، في المقابل، بإعجاب وتكبير الى بلدان تقوم على وحدات قسرية، محكومة بالقمع والأمن، أو تدعو لمثل هذه الوحدات.

وربما جاز القول إن السجال بين نمطين من الدول لم يضمر ولم يخفت أبداً في هذا الجزء من العالم، ولو أنه لم يستخدم التسميات الصريحة في دلالتها. فهناك النموذج المستقى من بلدان كسويسرا وبلجيكا في مقابل النموذج المستلهَم من الوحدتين الالمانية والايطالية لأواخر القرن التاسع عشر، وهو نموذج بات واضحاً أنه لم يعد قابلاً للتكرار في زمننا المعاصر، فيما لم يبق منه الا استخدام الدعوات الوحدوية ذريعة للتسلّط على الأصغر أو الأضعف.

وفي هذا كله تُطرح مسألتان: الأولى، أن التصدّي النزق للأردنيين الذين يقولون "الأردن أولاً"، أو اللبنانيين الذين يقولون "لبنان أولاً"، هو ما يتجاوز نظامي البلدين المذكورين ليشكّل إهانة لسكان البلدين نفسهما وتخويفا لهم في الوقت عينه. أما الثانية، والتي ربما كانت أعقد على المدى البعيد، فمفادها أن خدمة المنطقة وخدمة لونها العربي الجامع يتمّان بطرق أخرى غير تلك التي يقال إنها موضوعة لخدمة العروبة.

فهذه الأخيرة ليست بديلاً من الدول القائمة، كما أنها لا يجوز أن تُستخدَم أداة لتقويض استقرار البلدان أو لإثارة الهلع لدى الشعوب والجماعات، الصغير منها أو الأقليّ. ولا يزال العرب في سائر بلدانهم يجتمعون على أمور كثيرة، في عدادها التنسيق الاقتصادي والتكامل حيث يكون هذان ممكنين، وتطوير اللغة والثقافة العربيّتين وإحياء تراثاتهما، والدفاع عن قضايا عربيّة مُحقّة وعادلة على رأسها المسألة الفلسطينية. فيُستحسَن، من ثم، أن يُكفّ عن اتباع النهج، الاستفزازي والابتزازي، المعمول به راهناً، والذي لن يؤدي، في أمد يطول أو يقصر، إلا إلى تقليص ما تبقّى من هذه القواسم المشتركة، ووضع الشعوب العربية واحدها في مواجهة الآخر، والجماعات واحدتها في مقابل الأخرى.

كاتب لبناني مقيم في لندن