المسلسل الروسيّ الجديد

في الدول التي يحكمها فرد واحد، يتحوّل رحيل هذا الفرد الى مسألة مصير مفتوح للبلد، لا مسألة تداول في نطاق السلطة الضيّق. ذاك أن عالماً بكامله قد ينهار وعالماً كاملاً بديلاً قد ينشأ في مجرّد أن يموت الزعيم الأوحد أو يغيب عن الواجهة.

اضافة اعلان

وروسيا، وهي دولة عريقة في تقاليد الطغيان، عرفت تجارب ثلاثاً على الأقلّ من الصنف هذا: ففي أواخر القرن الثامن عشر، ومع وفاة الامبراطورة كاترينا الثانية، حلّ محلّها نجلها بولس (بول) متسنّماً العرش الامبراطوريّ. لكن هذا الأخير، وقد وصفته كتابات تاريخيّة كثيرة، بنقص الاتّزان، انعطف كليّاً عن سياسات أمّه الإصلاحيّة والتنويريّة في اتّجاه تزمّت مهجوس بالثورة الفرنسيّة وتأثيراتها التقدّميّة.

ثمّ، وفي أواسط خمسينيات القرن الماضي، ورث نيكيتا خروتشوف معلّمَه جوزيف ستالين. إلا أنه في المؤتمر العشرين الشهير للحزب الشيوعي السوفياتي، وقف خروتشوف يدين بقوّة وقسوة عهد ستالين، متحوّلاً عن بعض ممارساته وإن لم يشمل التحوّلُ الشيوعيّةَ وتركيبةَ السلطة نفسيهما.

وفي أواخر ثمانينيات القرن نفسه، صعد من صفوف الحزب الشيوعيّ إيّاه قياديّ شجاع وحكيم اسمه ميخائيل غورباتشوف، كُتب له الحلول في الكرملين مع رحيل الزعيم الهرم نيقولا تشيرننكو. لكنْ على عكس ما فعله بولس بكاترين، سار غورباتشوف في اتّجاه معاكس، متجاوزاً ما فعله خروتشوف بستالين. وفي نهاية المطاف، ابتدأ على يدي غورباتشوف تفكيك الإمبراطوريّة السوفياتيّة واندراج أجزائها في حركة الكون العريض.

تغيّرات كهذه هي، اليوم، ما يؤرّق الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين.

بالطبع ليس الموت الاحتمال المطروح على هذا الرئيس الشابّ نسبيّاً، بل انتهاء ولايته الرئاسيّة الثانية في آذار(مارس) 2008. فهو كان تورّط في وضع دستور يمنعه، ويمنع كلّ شخص آخر، من تسنّم رئاسة الجمهوريّة لأكثر من ولايتين متّصلتين. وتبعاً لإصراره على تقديم بلده للعالم الخارجيّ، لا سيّما بلدان الغرب، بلداً ديموقراطيّاً يلتزم إملاءات دستوره، بات بوتين مدعوّاً الى مغادرة الكرملين بعد خمسة أشهر.

لكنْ هل يعقل فعلاً أن يُعهَد بالبناء الذي أقامه بوتين الى وافد جديد قد يفعل ما سبق أن فعله الامبراطور بولس وخروتشوف وغورباتشوف؟

الجواب، بالطبع، هو: لا. لهذا أعلن رئيس روسيا الحاليّ بنفسه أنه قد يرأس قائمة حزبه "حزب روسيا الموحّدة" في الانتخابات المقبلة. وهو ما يعني أنه سيتحوّل رئيس الكتلة البرلمانيّة الأكبر، ما يفضي الى تشكيله رئاسة الحكومة. وقد ترك كلام بوتين هذا للمعلّقين والمراقبين أن يتوقّعوا عودته مرشّحاً رئاسيّاً الى الحلبة في انتخابات2012 الرئاسيّة، بعد أن "يدفّئ الكرسيّ" له رئيس الحكومة الحاليّ فيكتور زوبكوف، الموصوف بأمور قليلة أهمّها أنه صنيعة بوتين وأنه قليل الكلام وكاره للأضواء.

وإذا صحّت الفرضيّة هذه، وهي في أغلب الظنّ صحيحة، يكون بوتين قد وقع على مثاله في شخصيّتي الصينيّ دينغ هسياو بنغ والتشيلي أوغستو بينوشيه: فالأوّل الذي ارتبط باسمه تفكيك الماويّة والانعطاف ببلده نحو الليبراليّة الاقتصاديّة(دون الديموقراطيّة السياسيّة)، حرص حين ابتعد عن المسرح أن يبقي في يده السيطرة على الجيش وموقع التحكيم في شأن القيادة الحزبيّة.وهو الشيء نفسه تقريباً الذي فعله الديكتاتور الأميركيّ اللاتينيّ ووضعه شرطاً للقبول بمبدأ التحوّل الى ديموقراطيّة معاقة.

وفي وسع بوتين، وهو الرئيس السابق لجهاز "كي جي بي" الاستخباريّ السوفياتيّ، أن يوظّف كافّة مهاراته التآمريّة وصولاً الى الهدف هذا، لا سيّما وأن النظام الذي أنشأه تُتّخذ قراراته في الكواليس والردهات.وهو لن يعوزه الوقوع على مهارات أخرى يوفّرها أشخاص، هم موظّفون جزئيّاً، أيديولوجيّون جزئيّاً، كفلاديسلاف سوركوف وغليب بافلوفسكي، يشغلون في الكرملين الدور الذي شغله كارل روف في البيت الأبيض، في واشنطن، خلال معظم عهد جورج بوش.

بيد أن طموح بوتين وتآمريّته لا يكفيان لتفسير كلّ شيء. فهناك أيضاً الأطراف التي احتواها النظام ووجدت في استمراره وفي بقاء زعيمه في السلطة شرطاً لتلبية مصالحها. يتصدّر هذه المجموعة ما يُسمّى اليوم "الشينوفنيكي" أو البيروقراطية الجديدة المحيطة ببوتين والتي يؤرّقها الرجوع الى ما يشبه عهد بوريس يلتسن من حيث الضعف وانهيار الأمن في الداخل، والهيبة في الخارج. كذلك، وعلى مقربة من تلك البيروقراطيّة، يقف المستفيدون من رُخص التنقيب عن النفط واستخراجه ومن تلزيمات عقود الاستيراد الحكوميّة التي غدت سمينة جدّاً مع ارتفاع عائدات النفط والإنفاق الحكوميّ.

وكمثل القوى التي تصطفّ وراء بوتين، هناك القضايا التي تدعمه، وفي أوّلها الشعور القوميّ بوصفه مبارحة لـ"ذلّ روسيا" وفقرها في عهد يلتسن، ولـ"خضوعها لإملاءات الولايات المتّحدة"، فضلاً عن"زمن خوفها من الإرهاب الشيشانيّ".

وكائناً ما كان الأمر، يبقى من المغري متابعة هذا المسلسل الروسيّ الجديد والمثير الذي ستتكشّف فصوله تباعاً في الأشهر القليلة المقبلة. أليس عالم الكواليس الاستبداديّة مشوّقاً على النحو الذي نعرفه في مسلسلات التلفزيون؟ الفارق أن الأخيرة تسلّي قليلاً بينما الأولى تنعكس إيّما انعكاس على حياة البشر أنفسهم!