المقال الأول .. المقال الأخير

يتملكني شعور ثقيل يصعب تشخيصه، وتنتابني احاسيس مختلطة، وانا اجلس امام مفاتيح لوحة الكمبيوتر، استعداداً لكتابة آخر مقال لي في "الغد" وذلك بعد نحو تسع سنوات كتبت فيها اكثر من الف مقال، تعرفت خلالها على كوكبة رائعة من الزملاء، وتلمست في غضونها افضل اجواء العمل المهني والدفء والاحترام، الامر الذي يزيد من جسامة تسطير كلمات هذه الاطلالة الوداعية من على صفحات هذا المنبر الرائق.اضافة اعلان
ونظراً لمشقة الكتابة تحت وطأة مثل هذه المشاعر المثقلة بالأسف والارتباك، ازاء ما يمكن قوله في مثل هذه المناسبة غير الشخصية تماماً، ورغبة مني في تجنب مزيد من المعاناة، بحثت عن اول مقال كتبته في " الغد" قبل اكثر من 450 اسبوعاً، كي استعيد الروح التي دلفت فيها الى رحاب هذه الصحيفة العزيزة على النفس، فوجدت ان فيه ما يفي بالغرض، وانه قابل للنشر كما هو، وبالحد الادنى من التصرف.
ففي ذلك المقال الاستهلالي المعبر عما كان يجيش في الصدر، خاطبت نفسي متعجباً: "كأنك لم تمهر نصاً من قبل، لم تلقم عجينك بيت النار منذ مطلع العمر، لم تورد الابل مورد الماء ذات مرة، ولم تعقلها في اي يوم، فلمَ تتثاقل، تمشي على هون؟ كأنك تستهول الاختيار، تمعن النظر في مرآة ذاتك، تنقر برأس خنصرك نقرة طفيفة على الباب باستحياء، تستجمع شتات نبضك، كي تعيد له القوام القويم، وتصعد به دنِفاً، كلِفاً مصطهجاً، الى سنام هذه المنصة الباذخة.
"وكأني بك اليوم شديد التهيب على نحو اكثر مما ينبغي، وان قلبك يشتعل بالاغتباط اقل مما يجب، تبالغ في طلب الاناقة والاستقامة وحسن الظن، وتفرط في كل ذلك بشدة، كأنك راغب في استعراض كل ما لديك من اجوبة مضمرة، من توضيحات فائضة ولزوميات غير لازمة، وكأني بك عازم على ان تسوي امرك بيدك اكثر، مع انك نزفت ما يكفي ويفيض من الحبر والنبض والعطر في بلاط صاحبة الجلالة.
فلماذا كل هذا الوقوف الممض على اطلالك، كل هذا الرواح والغدو بين دفتي كتاب بوزن ربع قرن من المراوحة؟. فكل ما في الامر انك تحمل الآن قضك على سويقتيك وتطرح عنك قضيضك، تنتقل من رواق الى رواق ارحب، تعبر الشارع ذاته من الرصيف الى الرصيف المقابل، كي تمد رجليك اطول، وتقارف وجع الكتابة، شقاء الوعي، شفاء الروح، استظهار عوالمك الداخلية بلا تكلف، وفض الالتباسات المبثوثة داخل النص دون خشية او تحسب.
ها أنت تخرج يدك من جيبك بيضاء، تملأ كأسك بالشراب الذي تشتهيه، وصوتك بالاعتداد من غير افراط، فلا تطل الوقوف على الباب اكثر، اذ لم يبق لك من حشاشة الروح سوى ذؤابتها الضئيلة ، من البروق غير التماعها الاخير، ومن الاقداح الا ثمالتها المعتقة، فخذ موضعك بأقل قدر من البوح والشرح، فانت اليوم في راحة كف اكثر اتساعاً ودفئاً وانفتاحاً، وتطل من على منبر كلام يتموضع تحت بقعة ضوء ساطعة.
ادفع عنك مشاعر الغربة، انزل عن كاهليك صخرة المشقة، لك ان تضع لوح زجاج شفيف موضع اضلاع صدرك، وان تأخذ نفساً اعمق. دع ناظريك ومخاطبيك يطلون على دروبك الداخلية، يشاهدون متاهة نفسك، يجسون فيك الخلجات والسكنات والنوازع، يدخلون الى عوالمك القصية بعيون مفتوحة، يقرفصون امامها على ركبة ونصف الركبة، فيما انت تروح وتؤوب على رسلك، تهش على قطيع المفردات بعصاك، لا بعصا هرون أخيك، تستنطق عيسها المدلجات، صافناتها والحداة: أي الدروب يا قلبي اقرب إلى القلب، أيها أيسر إلى عقدة الوصل؟.
انت اليوم في استدراكاتك المسبقة، في استهلالاتك المطولة، في إصغائك المديد الى ما يتغرغر في بروج روحك، لا تعيد انتاج نفسك داخل الثلم، لا تسوق قطيعاً من الزرافات المشرئبات، او شياها سوداً سارحات من غير كبش عظيم، ولا تثريب عليك، انت اليوم تتلو نفسك بنفسك، تبوح على الملأ، تقص على الناس تباريح قلبك، فأقسِط واوسِط واعتدل، ولا تسدد الآن الحساب المؤجل، واياك ان تكسر صحناً اكلت فيه، ان ترمي حجراً في بئر غرفت من مائها دلاءً بلا حصر، ودع عنك المسوغات الممنوعة من الصرف.