انضباطٌ لا يُصادر الحرية

في دراسته التحليلية النقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، يرى محمد عابد الجابري في مقاربته "العقل الأخلاقي العربي" أن الثقافة العربية لم تعرف نظاماً واحداً للقيم. ويذهب إلى القول: إن كل ما عرفته هذه الثقافة منذ بدأ فيها الكلام في القيم، أي عقب "الفتنة الكبرى"، هو "أسواق" للأدب والأخلاق و"مَعارض" للقيم، وفق الجابري الذي يميِّز بشكل صريح بين أن يكون التعدد في نظم القيم داخل الثقافة الواحدة ثروة وغنى، أو أن يكون من ذلك النوع الذي يتأسس على مجرد الكثرة، ويفتقد القدر الضروري من النظام الذي يخرجه من الفوضى ويجعل منه قوة. ويقرر صاحب "العقل الأخلاقي العربي" أنه، في هذه الحالة، يعكس نظام القيم خللاً بنيوياً ووضعاً قلقاً، ليخلص من ذلك إلى النتيجة التي سجَّلها في كتابه المذكور، وهي أنه: "إذا كان تعدد نظم القيم في الثقافة العربية يعكس تعدد مصادر هذه النظم واختلاف مرجعياتها بسبب تعدد الموروثات، كما يعكس التداخل والتنافس والصراع الذي عرفه التاريخ، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو العلاقات مع الخارج، فإنه يُعبِّر أيضاً عن عدم ظهور حركة إصلاحية جذرية تعيد الترتيب في مجال القيم. والنتيجة هي أن القيم نفسها تعيد إنتاج نفسها باستمرار".اضافة اعلان
من هنا فإن إصلاح القيم والمثُل الدينية في ثقافتنا لا يُقصَد منه الحديث عن الأخلاق الكلية، باعتبارها قيماً ثابتة غير نسبية، بل إصلاح نظام القيم، وإعادة ترتيبه واتساقه، ومنع ازدواجية معاييره، من خلال إخضاعه لشروط العقل والإرادة الإنسانية الحرة، بما يجعله يكتسب صفة العمومية والانضباط.
إن إعادة صياغة المثُل الدينية الموروثة، بوصفها مهمة إصلاحية عاجلة وملحَّة، تتغيا أن يكون الدين رافداً في إرساء تنمية مستدامة، وفي أن يكون عامل سلام وسكينة وتضامن وتواصل بين البشر، لا حاجزاً يفصل بينهم، أو ينمِّي انغلاقهم وتعصبهم ... إنما تتطلب في الآن ذاته الاعتراف، بداية، بأن "الإثيقا الإسلامية" الموروثة عالية الانضباط عموماً، وإنْ تكن خاصة وغير تحرُّرية، وهي، لذلك -برأي ياسين الحاج صالح- تكتسب قيمة إضافية في غياب أخلاقية تجمع بين العمومية والانضباط؛ حيث "لم تتكوَّن في ثقافتنا العربية أخلاقية غير دينية فاعلة، أو لم يتكوَّن عالم أخلاقي منظم، يضع آليات تطهُّرية (تكفير عن الأفعال السيئة) مكفولة بتصرف غير المؤمنين المحتملين. فخارج الدين ليس هناك عوالم معيارية واضحة، قد يمكن وصفها بأنها حداثية أو إنسانية. في هذا، الحداثة الغربية مختلفة عن حداثتنا. إنها عالم معياري عالي الاتساق، يوفِّر قدراً واسعاً من الحرية، مع قدر كبير من المسؤولية والانضباط". هذا الحكم لا ينفي بالتأكيد وجود ثغرات ونقاط ضعف تسمح بتوجيه الانتقادات للحداثة الغربية، لكن الصحيح أيضاً أن الصيغة التي تقدمها في مجال الحرية وحقوق الإنسان واحترام عقله وكرامته وإرادته، أيْ جعل انضباطِه حرّاً، ما تزال الأفضل وتتفوق على الصيغ الأخرى التي يطرحها الآخرون.