انطباعات عامّة على هامش قضيّة النساء

يوم المرأة العالميّ الذي احتُفل به كونيّاً قبل أيّام، وهو سُنّة تتكرّر منذ تأسيس العيد في 1911، نتاج جهد مديد راكمته قوّتا الحداثة الأكبر في التجربة الغربيّة: التقليد الليبراليّ غير المحافظ، والتقليد اليساريّ قبل انحطاطه البلشفيّ والستالينيّ.

اضافة اعلان

الجذر الأبعد يرجع الى جون ستيوارت ميل (1806- 1873)، المفكّر السياسيّ البريطانيّ الذي دعا في مجلس العموم، بوصفه نائباً يومذاك، الى حقّ المرأة في التصويت. وهو ما شكّل بداية الحملة لتحصيل حقوق النساء. حتى إذا حلّ العام 1908، تجمّع في نيويورك، عروس العالم الحديث يومها، وعروسه الآن، 15 ألف امرأة يطالبن بساعات عمل أقصر وأجور أعدل، فضلاً عن حقوق التصويت. وكانت نيوزيلندا، حتى ذلك الحين، البلد الوحيد في العالم الذي أقرّ، ومنذ 1893، بحقّ النساء في الاقتراع. لكنْ في 8 آذار (مارس) 1911 قادت كلارا زتكين، النسويّة الماركسيّة وقائدة الفرع النسائيّ في الحزب الاشتراكيّ الديموقراطيّ بألمانيا، مهمّة تأسيس العيد كيوم خاصّ بهنّ وبالانسانيّة جمعاء، وتمّ ذلك في كوبنهاغن.

هذه الأسماء والأمكنة التي يُظهرها ألبوم النضال النسائيّ والنسويّ تقول إن المشكلة لم تُطرح إلا حيث حلّت الحداثة، حتى لو كانت حداثة مشوبة بالاستعمار والاعتداء على السكّان الأصليّين، على ما تنمّ حالة نيوزيلندا. فهناك فقط يقيم التراث المستقى من التنوير، حيث فكرة "الإنسان" كواحد متّصل متكامل وقائد للتطوّر، وفكرة "الكونيّة" التي تجتمع تحتها الشعوب والأمم والأعراق والأجناس.

بطبيعة الحال، لا الكونيّة تتحقّق دفعة واحدة، ولا حلول وحدة الإنسان، مقابل تجزئته، يتمّ بانقلاب عسكريّ. فهذا وذاك عمليّة تاريخيّة تتقدّم وتتعثّر، وأحياناً تتناقض، فيما يتطوّر بموجبها مفهوم الحقوق ومفهوم المسؤوليّة والواجب. وغنيّ عن القول إن رفقة الدرب بين الاستعمار والديموقراطيّة تجسّد خير تجسيد هذا الطابع المعقّد والمتناقض لسيرورة الوعي بالانسانيّ والكونيّ.

في المعنى هذا، تدرّج نيل النساء حقوقهنّ في التصويت، تماماً كما تدرّجت العلاقة بين المُلكيّة وبين الاقتراع، بينما ما تزال المساواة مع الرجال، في الأجور، موضوعاً مطروحاً على معظم العالم المتقدّم والديموقراطيّ. لكنْ هنا فقط، حيث انتصرت الحداثة الديموقراطيّة، أمكن للمشكلة أن تُطرح وأن توضع على سكّة الحلّ. وبالفعل تحقّقت إنجازات ضخمة وعديدة جاءت دفعتها الكبيرة والأخيرة على يد الحركة النسويّة، الأميركيّة والأوروبيّة، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

وقد قامت السيرورة هذه على جدل خفيّ طرفاه ضغط مطلبيّ واستجابة يمليها التكوين الديموقراطيّ للمجتمع والثقافة. وبالضبط لأن الكثير من المهمّات المطروحة قد بُتّ وحُلّ، شرعت ما بعد النسويّة، وهي أشدّ استرخاءً وأقلّ أرثوذكسيّةً وصواباً سياسيّاً، تحلّ محلّ النسويّة النضاليّة القديمة.

بيد أن الانحطاط البلشفيّ، وتتويجه الستالينيّ، مما تعرّض له التقليد الماركسيّ، السليل الراديكاليّ للتنوير، خان قضيّة المرأة عبر جدليّة أخرى، سلبيّة وكارثيّة النتائج. فعبر تحرير شروط العمل وحدها، من دون تحرير المرأة من العمل المنزليّ ومن هيمنة الثقافة الذكريّة، أصبح العمل خارج البيت عبئاً يُضاف الى عبء البيت وتسلّط الزوج. وقد اشتغلت هذه القاعدة على النحو التالي (الذي كانت توصف به الرأسماليّة في مراحلها الأبكر): اضطهاد عام توقعه السلطة ونظامها وعلاقاتها بالرجل فلا يلبث الرجل أن يوقعه اضطهاداً خاصّاً على المرأة. وبسبب الكبت والقمع مما عُرفت به أنظمة الكتلة السوفياتيّة، لاذ السكّان بالدين والقيم القوميّة المحافظة ملجأً لهم، خصوصاً أن الثقافة الجامدة والأبويّة لتلك الأنظمة لم تؤسّس أيّ وعي تقدّميّ فعليّ يستطيع مواجهة الوعيين القوميّ والدينيّ. وفي نهاية المطاف، ارتدّت الثورات التي أطاحت الشيوعيّة لتطيح معها الإنجازات الماديّة "الإلحاديّة" فيما خصّ الطلاق والإجهاض وسواهما.

أما "العالم الثالث"، فليس الأمر مطروحاً فيه أصلاً إلا في بؤر مدينيّة محدودة وضيّقة. كذلك ما تزال العناوين النضاليّة المطروحة على المرأة أوّليّة وبدائيّة جدّاً، من نوع الحقّ في قيادة السيّارات أو رفع "جريمة الشرف" عن أعناقهنّ. ومن دون أيّة تبرئة للأنظمة الحاكمة، الرجعيّة والأبويّة، يبقى أن المجتمع وثقافته يتجاوزان السلطات السياسيّة ويبزّانها فيما خصّ الموقف من المرأة. لا بل إن السلطات غالباً ما تتشدّد نزولاً عند إلحاح ذينك المجتمع والثقافة. فهل هناك، مثلاً، أكثر تشدّداً، على هذا الصعيد، من حركات المعارضة الدينيّة في بعض البلدان؟ وهل ثمّة من يبزّ الحركات الطالبانيّة والجهاديّات السلفيّة والتكفيريّة؟.

ولا بأس بملاحظة تستدعيها مسائل المرأة وحقوقها، أبعد من مدارك الممانعين الحداثيّين: ذاك أن الجمع بين الحركات الراديكاليّة في مناهضة الاستعمار وبين تحرير المرأة آل كلّه الى الإخفاق (إلا على مستوى التبشير والخطابة). فالثورة الجزائريّة ما ان انتصرت، وكانت للنساء مساهمتهنّ في هذا الانتصار، حتى أرجعت النساء الى البيوت، بينما لم يكتم آية الله الخمينيّ رغبته في إخراجهنّ من الحقل العامّ بوصفه أحد أهداف ثورته المناوئة للحداثة.

وبالفعل يستحيل عمليّاً، وإن لم يستحل تبشيريّاً، رفع درجة العداء للغرب السياسيّ الى الحدّ الأقصى والإصرار، في الوقت نفسه، على حداثة لا تؤتى إلا من مصدرها الغربيّ. كذلك، وعملاً بالمعيار نفسه، يستحيل النفخ في ثقافة العنف والدم، وهي رجّاليّة تعريفاً، واستحضار الرجوليّ و"البطوليّ"، ثم الإقدام على... تحرير المرأة!.

وهي حقائق فاتت، وما تزال تفوت، معظم "نسويّاتنا" اللواتي يخضن معارك تمكين الرجال بما يحول دون تمكينهنّ.

كاتب لبناني