بريطانيا واوروبا بين الارهاب والسياسة

اذا كانت جريمة مدريد الارهابية في 11 آذار 2004 قد دفعت اسبانيا "يسارا"، وادت الى انسحاب قواتها العسكرية من العراق، فالواضح ان جريمة الاسبوع الماضي في لندن لن تدفع البريطانيين في الاتجاه نفسه. فلأسباب مختلفة، بعضها تاريخي يعكس نفسه على التكوين السياسي البريطاني، يمكن للمرء ان يتوقع تحولا اجماليا الى "اليمين" في البلد المذكور، ولكن ايضا في عموم القارة الاوروبية.

اضافة اعلان

فحتى اولئك الذين يحاولون ان "يتفهموا" الارهابيين، في اوساط الاوروبيين، سيجدون انفسهم امام سؤال قاهر وملح: اذا كان اولئك القتلة يريدون اتباع العبرة الاسبانية القائلة باستخدام العنف لاحراز نتائج سياسية، فهل يعني هذا ان نتوقع مذبحة في كل واحدة من عواصم قارتنا؟

على اي حال، تجيء الجريمة الموصوفة لتعطي مزيدا من الزخم لاتجاه اوروبي متعاظم نحو "اليمين"، تتعدد اسبابه ومظاهره. وتكفينا عودة سريعة الى الوراء، اي الى فترة انصرام القرن العشرين، كي نلاحظ كيف ان اطراف "اليسار" في العالم الغربي هي التي تمسك بزمام الحياة السياسية في بلدانها. ففي بريطانيا نفسها، كان "حزب العمال" بقيادة توني بلير وغوردون براون قد حلا في 10 داوننغ ستريت. وبدا في فرنسا، ان رئيس الحكومة الاشتراكي، ليونيل جوسبان، احد ابرز المرشحين لرئاسة الجمهورية، بما يعيد الوصل والربط مع الثمانينات الميترانية. اما المانيا، فكانت تستقبل مستشارية الاشتراكي الديمقراطي غيرهارد شرودر المتحالف مع "حزب الخضر" البيئوي، بعد السنوات المديدة للمستشار المسيحي الديمقراطي هيلموت كول. وفي وسعنا، على رغم اختلاف الاسباب والاشكال والتجليات، ادراج الولايات المتحدة الاميركية ايضا؛ فهناك كانت المكاسب الاقتصادية لعهد بيل كلينتون الثاني تتلاحق تباعا، فيما بدا من المشروع الظن ان نائبه آل غور سوف يحل محله في البيت الابيض.

ولا بأس هنا بشيء من الاستدراك الايضاحي: فتعبير "يسار" في المجال هذا لا ينطوي على اي تذكير باليسار الشيوعي، ولا حتى باليسار الاشتراكي الديمقراطي القديم الذي يجهر بتمثيل الطبقة العاملة وتوسيع حصتها في القرار السياسي. ولئن كان قول كهذا بدهيا في ما خص الحزب الديمقراطي الاميركي، فانه صحيح كذلك بالنسبة الى الاحزاب الاوروبية المذكورة، والتي تواضع معظمها على اتباع ما سمي "الخط الثالث" (خليط من اقتصاد السوق واخذ الفئات الاجتماعية المهمشة في الحساب). ذاك ان الصراع الايديولوجي، وان لم يزل محتدما في الجوانب الثقافية والمجتمعية (الدين، والطلاق، والاجهاض، والفردانية، ...الخ) كما في التعامل مع "العالم الثالث" وقضاياه، الا انه ضمر في الشق الاقتصادي تحديدا. ففي الموضوع الاخير هذا يتنافس الجميع، "يمينا" و"يسارا"، على قلب الطبقة الوسطى العريضة، ما يمنح الخلاف على الجبهة المذكورة طابعا اجرائيا وتقنيا اكثر منه ايديولوجيا.

في مطلق الاحوال، ولاسباب ليس الارهاب حاضرا فيها دائما، انتهت فرنسا في يد الرئيس الديغولي جاك شيراك الذي يرجح ان يخلفه وزيره نيكولا ساركوزي، وتتهيأ المانيا لانتخابات قد تحمل المسيحيين الديمقراطيين بزعامة انجيلا مركل الى المستشارية في برلين، اما بريطانيا فكانت الدولة الوحيدة التي حافظت على حكومة عمالية، علما بان الاكثرية البرلمانية التي كانت تحرزها انخفضت على نحو ملحوظ، تسببت به سياسة الحرب في العراق وما شابها من اكاذيب.

ويخشى الان ان تأتي الضربة الارهابية الاخيرة لتعمم هذا التوجه يمينا، وتسحبه على بريطانيا، احدى قلاع التسامح الابرز في اوروبا. صحيح ان تحولا كهذا قد يقدم عليه حزب العمال نفسه، نظرا الى ضعف حزب المحافظين المعارض، فضلا عن الدور الضخم الذي تلعبه عواطف الرأي العام في صناعة توني بلير لسياسته، لكن الصحيح ايضا ان النتيجة لا تتغير كثيرا في اخر المطاف، لا سيما بالنسبة الى العرب والمسلمين المقيمين فيها، كما للتعامل مع قضايا بلدانهم الاصلية. فالمهم هو الاغنية وليس من يغنيها.

وبالنتيجة، لن يكون من المبالغة ان نتوقع انتقال أعداد توازي أعداد الذين عاقبوا بلير في الانتخابات الاخيرة من ضفة الى ضفة، ومن موقع الى موقع. وهي، الى هذا، ستكون خسارة مزدوجة: ذاك انه، وبغض النظر عن كل ما قد يقال في سياسات بلير العراقية، إلا أنه يمارس بعض الضغوط الايجابية المتاحة على واشنطن في ما خص تسوية النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي، ولم يعد سرا ان حزب العمال البريطاني معني بمسائل الفقر والبيئة في العالم، بل ومبادر الى طرحها وتبنيها. وليس بلا دلالة ان قمة اسكتلندا الاخيرة انتجتها الجهود البريطانية اساسا، فما ان انعقدت للبحث في مسائل الفقراء، خصوصا منهم فقراء افريقيا، حتى كانت انفجارات "القاعدة" تهز لندن، وتعيد تثبيت مسائل الارهاب والامن على رأس اجندة ينبغي ان تتصدرها مسائل الجوع والتنمية.

وهذه عينة صارخة على الايادي البيضاء لأسامة بن لادن ورفاقه على العالم وفقرائه، وعلى العرب والمسلمين، اكانوا يقيمون في بلدانهم الاصلية ام في اوروبا. ومن الثقب الاسود هذا يمكن ان تخرج اعمال فاشية وعنصرية تستهدف بعض ابريائهم، كما يمكن ان تظهر اجراءات امنية متشددة وعزيزة دائما على قلوب اليمينيين والمحبين للنظام. وما من شك في ان هناك خلفية يمكن تحريكها دائما، تندرج فيها مشكلة الحجاب في فرنسا، او مقتل السينمائي فان غوخ في هولندا، وقد تصل ببعض المهووسين بالتاريخ الى التذكير بالحروب الصليبية.. تماما مثلما تفعل منظمة "القاعدة".