تلفيق الشرعيّة..

كلّ واحد من بلدان المشرق العربيّ بات يملك أسبابه الخاصّة للهلاك: العراق، بسبب مخلّفات نظامه التوتاليتاريّ البائد ثم الاحتلال الأميركيّ والمقاومات التي استدعاها، وفلسطين بسبب نزاع "فتح" و"حماس" واحتمال الانفصال بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ولبنان بسبب الانقسام السياسيّ بعد خروج الجيش السوريّ وتداعيات محاكمة قتلة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، وسورية بسبب نظامها القمعيّ، ولكنْ أيضاً بسبب احتمال سقوط هذا النظام وانفجار المجتمع على الطريقة العراقيّة. وربما في حال حصول الأسوأ، امتدّت هذه النار جنوباً نحو الخليج، أو غرباً نحو مصر. وحتماً فإن بعض شظاياها سيعبر المتوسّط شمالاً باتجاه أوروبا.

اضافة اعلان

ما هذا الهول الذي تعيش ملايين تحت تهديده؟

يزعم كاتب هذه الأسطر أن أسباباً مشتركة، فضلاً عن الأسباب الخاصّة بكلّ واحد من البلدان، تجمع بين كوارثها، هي التي خرجت كلّها من رحم السلطنة العثمانيّة ودخلت العالم الحديث والسياسة من بوابة الصراع مع الكولونيالية البريطانية – الفرنسية. وعليه يتبدّى أن بذور المأساة إنما زُرعت آنذاك: فإذا صحّ ان الحقبة التي تلت مجيء الاستعمار تميّزت بظهور نُخب اهتمّت، الى هذا الحدّ أو ذاك، بتحديث مجتمعاتها وجعلها تقلّد التجارب الغربية، فإن هذه النُخب ظلّت ضيّقة الحضور محدودة التأثير في تلك المجتمعات، لا سيّما المناطق الريفيّة والداخليّة الأبعد عن المدن الكبرى. وقد اتّسم معظمها بقدر من الفساد الذي كان يعيق النموّ الاقتصاديّ كما يزيد في تشويه صورة "الغرب" الذي يرعى التجارب الحديثة. ولما كان العصر الذهبيّ للاستعمار هو الفترة الفاصلة بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية، فإن الضرورات العسكريّة، خصوصاً إبّان الحرب العالميّة الثانية، قيّدت الطابع الدستوريّ للتجارب التي راحت تبنيها بريطانيا وفرنسا في العالم العربيّ. هكذا بدا، على الدوام، ان الغربيين يقولون شيئاً ويفعلون شيئا آخر.

الا ان دخول السياسة من بوّابة الصراع مع الاستعمار كان يعني انها لم تترافق مع إصلاحات دينيّة ولا مع ثورة علميّة او تنوير او صراعات عميقة بين الطبقات الاجتماعيّة او بين الجنسين. هكذا حملت السياسة معنى ضدّياً للمستعمِر وحده: فهي أوّلاً وأخيراً نضال من أجل التحرر. وقد انطوى الفهم هذا على ضعف في المعاني الاجتماعيّة الايجابيّة وعلى تراجع الاكتراث بالتراكيب الداخليّة والمجتمعيّة. ذاك أن المهمّ هو أن "نقاتل ضدّ" من نرسمه عدوّاً لنا.

لقد طغى، إذاً، الايديولوجيّ على السوسيولوجيّ في الوعي السياسيّ العربيّ مثلما طغى التعميم على التخصيص. فقد شاء العرب، إذا ما استخدمنا تعابير كارل ماركس، تغيير عالمهم من دون أن يفسّروه. وهذا ما حملهم على المضيّ في شتم الاستعمار رغم انقضاء عشرات السنين على نزع ذاك الاستعمار، لأننا لم نعد نملك تعريفاً لذواتنا إلاّ انطلاقاً من صراعنا معه. وهو ما كان يدعونا إلى إبقائه واستئناف المعركة ضدّه، على رغم رحيله عن هذه الدنيا. وعلى النحو هذا صحّ في هذا الفهم اللاتاريخيّ للاستعمار ما كان يقال عن اللاسامية في بولندا: كلما نقص عدد اليهود تضاعفت الكراهيّة لهم.

بيد ان آثاراً أخرى ترتّبت على الوعي الضدي:

فالاهتمام بالشرعية السياسية ظلّ نسبيّاً جدّاً. صحيح انه ظهرت في ظل الكولونياليّة دساتير تحاول ان تحاكي الدساتير الزمنيّة الأوروبيّة، غير ان هذا راح يتراجع عقداً بعد آخر. حتى جمال عبدالناصر، شبه العلمانيّ الذي حوّل جامع الأزهر الى جامعة، حين أراد تبنّي "الاشتراكية"، دفع مشايخ مصر الى الافتاء بأصول إسلاميّة للاشتراكيّة تلك. ومنذ ذاك الحين، ولا سيّما في العقود الثلاثة الأخيرة، بات العربيّ يستطيع ان يعتنق الديموقراطيّة او الرأسماليّة او الاشتراكيّة او أياً من القيم السياسيّة الحديثة، الا أنه مضطرّ ان يبرهن على وجود جذور لهذه الفكرة في تاريخ المقدّس. قد سار هذا في موازاة عجز مزمن عن خلق مجتمع سياسيّ:

فالمواطن في مجتمعاتنا ليس مواطناً أوّلاً، بل هو ابن ديانة معينة أو طائفة دينية معينة او اثنية بعينها. وعلى هذا النحو جُمع داخل سلوك واحد بين هويّة دينيّة إسلاميّة بالغة التوحيد لفظيّاً وبين نظام موسّع للقرابة بالغ التجزيء والتفتيت. 

ويمكننا، هنا، ان نتحدّث عن قاسم مشترك جمع بين القوى المحافظة والفاسدة التي لم تهتمّ بتصليب مجتمعاتها في حقبة ما بعد نزع الاستعمار وبين القوى الراديكاليّة التي شرعت تصل الى السلطة منذ انقلاب 1952 الذي حمل "الضبّاط الأحرار" الى السلطة في مصر: إنه تلفيق الشرعيّة. فالمحافظون كانوا، ولا زالوا، يتحدّثون في وقت واحد عن دولهم الوطنيّة وعن الإسلام وعن "الأخوّة" العربيّة وعن فلسطين كما لو انها مترادفات. والشيء نفسه فعله الراديكاليّون بطريقتهم، مُضيفين الاشتراكيّة الى هذا الخليط العجيب. بهذا وقف الطرفان، ولو بتفاوت، الى جانب التحديث بمعناه التقنيّ إلا أنهما وقفا ضد الحداثة كموقف تغييريّ كامل حيال العالم والسياسة والاجتماع.

وليس من المبالغة أن يقال، الآن، إننا ندفع، بطرق ملتوية ومداورة، كلفة تلفيق الشرعيّة التي أنتجها دخولنا الى السياسة من باب الصراع مع الاستعمار فحسب، والذي، بدوره، أودى بنا الى تطوير نظرة ضدّيّة الى "الآخر" الذي يبدأ خارجيّاً ولا يلبث أن ينتهي داخليّاً جدّاً. أما العنف فهو، في الحالات جميعاً، ما يُحتكَم إليه في بتّ النزاعات.

كاتب لبناني