خارج المنطقة الحرجة

هي من دونِِ شكٍ جرائم تثيرُ الغثيان لشدةِ هولها، وقلةِ حيلةِ ضحاياها من أطفالٍ لا يملكون أيِ وسيلةٍ للدفاعِ عن حيواتِهم المستباحةِ من قبلِ أفراد أسرة، البدهي والمفترض أن تحميهم وأن تدرأ عنهم كافةَ الأخطارِِ المحدقة، تماماً كما تفعلُ غريزياً حيوانات مفترسة تذود عن صغارِِها من دون أن تتلقى أيِ دروس أو دوراتٍ تثقيفيةٍ أو ورشاتِ عمل في فنادقَ فارهة حول كيفية توفيرِ الأمنِِ والأمانِ لجرائمها الصغيرة، بل تقدم على توفيرِِ الدفءِ لها وتلقيمِها الماء والطعام إلى أن يشتد عودها وتصبح قادرةً على التصدي للحياة منفردة، تقومُ الوحوش الكاسرة بذلك في استجابةٍ عفويةٍ لشرطِ الطبيعة، وفي تفوقٍ أخلاقي مخجل على بعضِ النماذج التي تنْتَمي للجنسِ البشري زوراً وبهتانا. ولعلّ الصغير عبدالله مهند من الزرقاء ضحيةَ أخرى لهذه الجرائم الفظيعة هو النموذج الصارخ على مآس محلية كبرى أصبحت أخباراً مألوفةً جداً في وسائِلِ إعلامنا، بل أضحت عناوينَ بارزة في الصحافةِ العربيةِ والعالميةِ أحياناً.

اضافة اعلان

 قضى عبدالله أبو السنتينِ نحبهُ بعد ثلاثة أيام من الغيبوبة كنتيجة مباشرة لإصاباتٍ عديدةٍ في الرأسِ وفي أنحاء مختلفةٍ في جسدهِ الغض، وقبلهُ كان يزن الذي اسشهدَ في ظروفٍ مشابهةٍ، وهو الضحية الأكثر شهرة كونه صارَ عنواناً لحملةٍ نبيلة سعت إلى المطالبةِ بالحد من الإساءة للأطفال، ولا ننسى الصغير ورد الذي خرجَ من بيتهِ منذُ شهوْر ولمْ يعدْ حتى اللحظة وغاب إلى مصير مجهول مخلفاً ذويه رهائنَ جحيم الانتظار.

ورغم سواد الصورة وقتامَتِها وبحسبِ مختصين فإن الأردن ما يزال خارج المنطقة الحرجة بالنسبةِ لحالاتِ الاعتداء على الأطفال وإن نسبةَ الاعتداءات تُعد طبيعية مقارنة بالنسبِ العالمية. قد تبعث هذه الحقيقة الإحصائية الباردة الارتياح لدى البعض، هذا إذا افْتَرَضنا تجاوزا أن جميعَ الاعتداءات يتم التبليغ عنها وملاحقة مرتكِبيها وتتم كذلك متابعة ضحاياها الصغار من حيث توفير الحماية والإنقاذ والعلاج والرعايةِ النفسية لضمانِ تعافِيهم من تبعاتِ تِلكَ التجارب القاسية، التي يُجمع خبراء، على صعوبةِ ذلك من حيث المبدأ لأنهاَ ستُرافِقهم طوال حياتِهم، وتحولِهم إلى نماذج سلبية تحملُ في داخلِها غضبا وحقدا سيتنامى وصولاً إلى لحظةِ انفجارٍ ستكون مدمرةً من دونِِ شك.

ومهما بلَغَتْ تِلكَ الجرائم من ضراوة ووحشية غير أنها تظل قيد السيطرة كونَها سريعة الافتضاح لشدةِ تَطَرفِها وغرائِِبيتها، ولأنها تَتحول على الفور إلى قضايا جنائية تحتَلُ حيزاً واسعاً في الإعلامِ تستفزُ الرأي العام، وتغدو مصدر قلق حقيقي للجهاتِ الأمنية وللمشتغلين في حقلِ حماية الطفولة.

غير أن الخطورةَ الكبرى تكمنُ في تلك الحالاتِ المسكوت عنها والتي تضل طريقها إلى السجلات الرسمية، وتظل طي الكتمان واللفلفةِ لاعتباراتِ الخوف من الفضيحة أو خشية فقدانِ مصدر الرزق أو تشبثاً بتماسكٍ أسريٍ غير موجود إلا كصورةٍ شديدة التضليل. هذه الحالاتِ تفوقُ بأضعافٍ مضاعفة ما يتم الإفصاح عنه، هذا عدا عن سلوكيات تعد في ثقافتِنا التربوية عاديةً تندرج في سياقِ أساليبِ التربيةِ والتعليم من ضربٍ وتعزيرٍ وتحقير وامتهانٍ لعزةِ الطفلِ وكرامتِه، وتعمدُ عائلاتٌ مصابةٌ بهستريا التفوُق الأكاديميِ إلى إحالةِ طفولةِ أبنائِها إلى جحيمٍ لا يطاق تحت ذريعةِ الحبِ والحرص، وتلعبُ هذا الدورَ في العادةِ أمهات حنونات ولكن عصبيات جداً، ترى أن رسالتها في الحياة تنحصر في حث وتحفيز صغارها للتفوقِ على أقرانِهِم بغض النظر عنِ الثمنِ الباهظِ الذي يدفعهُ الأطفال حزناً وانكساراً ونكوصا وحرمانا من حق مشروع بالاختيار. قالها جبران سابقاً وأحبُ كأمٍ أن أردِدَها كي لا انْسى فأتعسف في الحب: أبناؤكم ليسوا لكُمْ، أبناؤكُم أبناءُ الحياة!

[email protected]