شروط لنجاح معركة الإصلاح الديني

أثارت فتاوى الشيخ السوداني حسن الترابي، وقبله المثقف الاسلامي المصري جمال البنا، عاصفة من الاحتجاج والاستهجان، فيما بقي التأييد لما قاله الرجلان خجولاً حيياً. وكما هو معروف، تناولت التأويلات الجديدة بعض المسائل الحسّاسة دينياً وفقهياً، كزواج المسلمة من كتابي، ولبس الحجاب، وتعاطي الخمرة.

اضافة اعلان

وقد يقال إن الترابي، الذي سبق لاسمه أن ارتبط ببعض أحلك لحظات الأسلمة القسرية والمتزمّتة في السودان، آخر من يحقّ له ريادة الدعوات الإصلاحيّة في مسائل كهذه. لكنْ، وكائنةً ما كانت حال الشيخ السوداني وظروفه وتحوّلاته، يبقى مما يلفت النظر أن مواقفه السابقة كانت قد أثارت من الترحيب والتهليل ما تثيره مواقفه الجديدة من الرفض والغضب وصولاً الى الاتهام بـ"الزندقة"!

وقد دل تفاوت كهذا، ويدلّ، على أمور ثلاثة على الأقل، يجدر التوقف عند مدلولاتها وعند ما يمكن أن يُبنى عليها من خلاصات:

فأولاً، لا تزال مجتمعاتنا، في عمومها، تعيش مرحلة يهيمن معها الديني على الزمني، فلا يستطيع الزمني أن يبرر شرعيّته، وأن يطوّر مرافعاته، إلا بالاستناد إلى النص المقدس. وهي الحقبة نفسها التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطى حين كانت موحّدة سياسياً بقيادة بابا الفاتيكان، وموحّدة روحياً وثقافياً بموجب المراسيم التي تصدر عن الأخير.

وثانياً، لا يزال ولاؤنا للماضي وللمألوف أقوى، بلا قياس، من استعداداتنا لمراجعته ولمحاولة تكييفه مع العصر الذي يزحف نحونا من دون استئذان. وربما كانت العولمة، بجديدها وتحدياتها، أكثر ما يثبّتنا في الولاء ذاك، اذ نرى فيه وسيلة صمود حيال ما نعتبره غزواً ثقافياً يمارسه عدو غربيّ لا يرحم.

وثالثاً، يترافق التحجّر والتزمّت مع مواقع سوسيولوجية لا تخفى على عين بصيرة: فالبلدان الأكثر تعرضاً للعالم الخارجي أكثر استعداداً للمراجعة والاصلاح من البلدان الأقل تعرضاً، والمدن أكثر استعداداً من مناطق الريف والبداوة، والمراتب الطبقيّة والتعليميّة الأعلى أكثر استعداداً من المراتب الأدنى.

والحقائق الثلاث هذه تنتهي الى تعيين الصعوبة التي تقف في مواجهة الاصلاح الديني والإقدام عليه على نطاق جماهيري واسع كالذي أقدم عليه المسيحيون الأوروبيون ممن غدوا يُعرفون بالبروتستانت، ابتداء من مطالع القرن السادس عشر.

فإذا صح ان المسيحيّة القديمة وغير المُصلَحة ارتبطت بالوحدة الأوروبية في ظل الفاتيكان، وأن اصلاح المسيحية ارتبط، بدوره، بنشوء الدول الوطنية في أوروبا على حساب هيمنة الفاتيكان، صحّ الشيء نفسه في ما خص الاسلام والعالم الاسلامي. ذاك انه من دون ربط الدين بأسئلة محددة يطرحها مجتمع بعينه ودولة بعينها، يبقى الكلام فيه تعميمياً وقادراً على التهرّب من مواجهة الأسئلة الملحّة للحياة. وأخطر من هذا، ان استمرار الدين رابطاً سياسياً عابراً للدول والأوطان يبقيه نهباً لنزعات ايديولوجية هي، في حدها الأدنى، شعبوية وديماغوجية (على ما رأينا في الحالة الخمينية الايرانية)، وفي حدها الأقصى تخريبية وارهابية (على ما نرى في حالات بن لادن والظواهري والزرقاوي...). فمن المفهوم، بالطبع، أن يبقى الدين رابطاً روحياً وثقافياً عابراً للبلدان، أما كرابط سياسي فلا.

كذلك، لا بد من أجل الإقدام على تصويب النظرة الى الماضي باتجاه الحاضر والمستقبل، من أن يكون هناك حاضر يستحق ان يعاش، ومستقبل يستحق التعلّق به وتمنّي قدومه. وهو ما يستدعي وجود وعد يحض على التفاؤل، مصدره في وضع اقتصادي أفضل وفي ما ينجرّ عنه من تمتّع بتعليم وطبابة وخدمات لائقة.

يقود التقدير هذا الى أن الاصلاح الديني هو ما لا يمكن ولوجه بثقة الا في ظل درجة من العدل الاجتماعي والشعور بأن الدولة المعنية لا تحمّل الفقراء وحدهم أكلاف التردي الاقتصاديّ، البنيويّ منه والطارئ. وبالمعنى هذا فإن سياسةً تكافح الفساد وتعقلن استخدام المال العام وتعتمد نظاماً معقولاً للضرائب المباشرة، كما تُعنى بتوسيع النمو الاقتصادي ليشمل البيئات الأفقر، وبتعميقه ليتحول الى تنمية، هي السياسة التي تقرّب إمكان الإقدام على اصلاح ديني.

ومن منطلق مشابه يمكن القول ان الاسترخاء في العلاقة بالخارج شرط آخر من شروط نجاح اصلاح كهذا. ففي ظل استشراء الشعور، الفعلي جزئياً والمتوهّم جزئياً، بأن الأعداء يحاصرون الشعب والأمة وثقافتهما، سوف تتجه الجهود كلها الى ردّ الحصار هذا، والى التمسك تالياً بكل ما هو في عهدتنا من تراث وعادات وتقاليد ومواريث، من غير تمييز بين غثّها وسمينها.

والخروج من شرط كهذا مسؤولية مزدوجة يقع نصفها على السياسات الغربية والاسرائيلية التي لا تني توصل رسالة التخويف هذه الى العربي والمسلم، فيما يقع نصفها الآخر علينا، حكاماً يتهرّبون من مواجهة المشكلات الفعلية بالمبالغة في الخطر الخارجي، ومثقفين يمارسون المبالغة نفسها حفاظاً على وضع قائم يتمتعون فيه بامتيازات سوف يفقدونها لو تغير الوضع المذكور.

وهكذا يتبدّى كم أنّ مهمة الاصلاح الديني، التي من دونها لا ديمقراطية ولا من يحزنون، شاقة وصعبة. لكن مبادرات جريئة كالتي أقدم عليها الترابي والبنا تبقى حريّة بأن توجه لها التحية. فهي ربما كانت الخطوة الأولى في المسيرة الطويلة أو الحجر الأول يُرمى في البركة الآسنة، خصوصاً انها تصدر عن قيادي اسلامي قضى عقوداً وهو يناضل (ويتآمر) في سبيل ما تصوّره الاسلام الحق، وعن شقيق لحسن البنا، مؤسّس الحركة الأولى والأكبر بين حركات الاسلام السياسي.

مفكر وكاتب لبناني