عيّنة ساطعة على فهم العالم المعاصر

عُرف الخديوي اسماعيل، الذي حكم مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بأمور كثيرة ومتضاربة. فهو بنى القاهرة الحديثة وربط بلاده بوجهة العصر الأقوى، أي الوجهة الأوروبيّة آنذاك. لكنّه أيضاً أغرق بلده بفساد مطنطن ومديونيّة رتّب الجزء الأكبر منها الإنفاق الباذخ والعُظاميّ الذي دلّ إليه تدشين قناة السويس. ولمّا كان البريطانيّون والفرنسيّون وبعض القوى الأوروبيّة الأخرى قد تورّطوا عميقاً في الاستثمار بالقناة، وبمصر، لم يعد في وسعهم أن يديروا ظهورهم لما يجري من تبديد وتبذير. هكذا فرضوا على الخديوي حكومة رأسها نوبار باشا وظيفتها الأساس تنظيم ماليّة مصر وضبط الإنفاق اللاعقلانيّ. وطبعاً كثر خصوم نوبار ليس فقط في أوساط المستفيدين من الفساد، بل أيضاً في جمهرة العاميّين الذين يسهل تحريك غرائزهم بمجرّد القول إن الحكومة عميلة، أو معادية للإسلام، أو "حكومة أجنبيّة" على ما سُمّيت فعلاً.

اضافة اعلان

ودار الزمن دورته وتكرّر الأمر مع الرئيس الفلسطينيّ ياسر عرفات الذي لم تُعرف سلطته بأيّة عقلانيّة وأيّ ترشيد في إنفاقها، وهذا قبل أن تنشأ دولة! ولمّا كان عرفات يمارس سخاءه من جيوب المانحين، ومعظمهم أوروبيّون، بات لا بدّ من فرض سلام فيّاض على إدارته بوصفه مرشّداً وضابطاً للإنفاق.

يتذكّر واحدنا تلك التجارب، البعيد منها والقريب، وهو يتابع النقاشات التي ثارت على هامش مؤتمر المانحين لإعمار غزّة في شرم الشيخ.

فالذين أرادوا أن تتولّى "حركة حماس" تسلّم المعونات وإنفاقها، فاتهم أن الذي يقدّم معونات تؤخذ من دافعي الضرائب في بلده يريد ضمانات فعليّة تتعلّق بإنفاق ما يُمنَح. وهي ضمانات ليست فحسب ماليّة أو تنظيميّة، بل كثيراً ما تكون سياسيّة أيضاً. والمثال الذي يحضر بقوّة، هنا، هو مشروع مارشال الأميركيّ لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية. فلأنّ المشروع المذكور ترافق مع الحرب الباردة بين الولايات المتّحدة وحلفائها وبين الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته، صار مطلوباً ضبط، أو تهميش، نفوذ الأحزاب الشيوعيّة في البلدان المتلقّية للمعونات. وفي هذا السياق حوصرت سياسيّاً أحزاب كانت قويّة يومها، كالحزبين الشيوعيّين الإيطاليّ والفرنسيّ، ونشأ ما يشبه التحريم على إشراكهما في الحكومات التي تُشكّل. وهذا، بالطبع، لم يكن ديموقراطيّاً، غير أنّه كان شرط المانح كي يمنح: فإمّا أن يقبله الممنوح ويعمل بموجبه وإمّا أن يرفضه ويعيش من دونه.

والحال أن الممانعين الذين طالبوا المانحين بتسليم أموالهم لطرف مصرّ على استمرار المقاومة، بحيث أن ما يُعمّر اليوم سوف يُهدّم غداً، لا يفقهون شيئاً في العلاقات الدوليّة ولا في فلسفة المعونات والمنح وفي سياساتها. إذ من هو الذي يستثمر في... المقاومة (بينما يصرخ علي خامنئي من بعيد: "المقاومة هي الطريقة الوحيدة لتحرير فلسطين")؟! وكيف تُعطى الأموال لتعزيز طرف لا يزال يعتمد ميثاقاً منسوخاً عن "بروتوكولات حكماء صهيون"، ذاك الكتاب الذي تمنعه بعض الدول المانحة فيما تعتبره دول أخرى نصّاً خرافيّاً واستيهاميّاً وعنصريّاً وضعه عملاء القيصر الروسيّ ووُظّف في عمليّة استئصال جنس بشريّ؟

هناك منطق واحد كان ليكون مقبولاً ومفهوماً، بل بمعنى ما محترماً، في ما لو أتيح له الظهور، وهو القائل: لا نريد أموالكم ولا منحكم ولا مساعداتكم، بل نريد التمسّك بالمقاومة وبـ"بروتوكولات حكماء صهيون" وبلّطوا البحر.

أما المنطق الممانع الذي اعتُمد فيفاجئه أن المانحين ليسوا ملائكة، وأن لديهم مطالب ومصالح، علماً أن الممانعين من أصحاب هذا المنطق لا يكفّون عن إسباغ الشيطانيّة على المانحين وعن وصف مطالبهم ومصالحهم بأسوأ النعوت وأقبحها.

هل يجوز لمن يفهم العالم على هذا النحو أن يحكم أجزاء بالغة الحساسيّة فيه وأن يسيطر على عقول الملايين من أبنائها؟ إن في الأمر ما يثير الرثاء الذاتيّ، أي أن نبكي على حالنا!