فلسفة "مجموعة العشرين"

منذ سنة ونيّف صار من الصعب متابعة أيّ خبر اقتصاديّ مؤثّر من دون العودة إلى "مجموعة العشرين". وصار لا يمرّ يوم إلاّ نقرأ أو نسمع هذا الاسم. لكنّها، في الأسبوع الماضي، ومن خلال قمّتها التي انعقدت في مدينة بيتسبورغ بالولايات المتّحدة، نافست الأمم المتّحدة التي كانت تعقد جمعيّتها العموميّة، على الصدارة الإعلاميّة.

اضافة اعلان

والحال أن "مجموعة العشرين" تعود في نشأتها إلى 1999 عندما نشبت الأزمة الماليّة الآسيويّة. آنذاك، وردّاً على الأزمة تلك، أقيمت "المجموعة" كمنتدى لوزراء المال وحكّام المصارف المركزيّة، يتداولون من خلاله في أوضاع المال والتجارة والاستثمار ويقترحون علاجات استباقيّة للمشكلات المحتملة.

لكنْ في العام الماضي، وبسبب الأزمة الكبرى، ارتقى عمل "المجموعة" إلى مستوى قادة البلدان المعنيّة أنفسهم، فعقد هؤلاء، في نيسان (ابريل) 2008 قمّتهم الأولى في لندن.

والأعضاء المؤسّسون يتوزّعون على فئات عدّة في ما خصّ الوضع الاقتصاديّ وأحياناً الجغرافيّ: فهناك، أوّلاً، كتلة الدول الرأسماليّة الغربيّة، وتضمّ الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا وإيطاليا، فضلاً عن الاتّحاد الأوروبيّ.

وهناك، ثانياً، البلدان الرأسماليّة الغنيّة غير الغربيّة، وهي اليابان وكوريا الجنوبيّة وأستراليا. وثالثاً، البلدان ذات الاقتصادات الصاعدة، أي الصين وروسيا والهند وأندونيسيا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك والسعوديّة وتركيا وجنوب أفريقيا. وما لبثت أن انضمّت إلى "مجموعة العشرين" إسبانيا وهولندا والبنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ.

هذه "المجموعة" غدت الحاكم الاقتصاديّ للعالم، ما دلّ إلى أمرين متلازمين يكادان يكونان من سمات زمننا: الأوّل، واقع العولمة الذي بات من المستحيل معه حلّ مشكلة إقتصاديّة أو ماليّة في بلد واحد، والثاني، تعاظم دور الدول غير الغربيّة، لا سيّما فئة البلدان ذات الاقتصادات الصاعدة، في تقديم الاقتراحات وصناعة القرارات المؤثّرة في خريطة الاقتصاد الكونيّ.

لقد ترتّب على قمّة لندن، في العام الماضي، إرساء قواعد للتعامل مع الأزمة، وجاءت القمّة الأخيرة لتلاحظ أن ما اتفق عليه في لندن أظهر نتائج حسنة ولو أنّها متواضعة نسبيّاً. ولهذا السبب شهدت قمّة بيتسبورغ ما وصفه بعض المراقبين بدرجة أعلى من استرخاء الأعصاب والثقة بالنفس. فقد تبيّن أن الأزمة قابلة للمحاصرة ومنع التوسّع تمهيداً للقضاء عليها.

بيد أن موضوع المواضيع في القمّتين، وهو ما يرقى إلى الإشكال الجوهريّ لـ"المجموعة"، يتجسّد في التالي: كيف تُمنَع الأزمات الماليّة والاقتصاديّة في المستقبل؟

ومن يتابع المداولات الأخيرة وما سبقها يمكنه استخلاص ما يشبه فلسفة لـ"مجموعة العشرين" مفادها أنّ من المستحيل، من حيث المبدأ، منع الأزمات. فهي جزء من طبيعة الحياة الاقتصاديّة، بل من طبيعة الحياة ذاتها. ذاك أن المطالبة باقتصاد بلا أزمات هي كالمطالبة بإنسان لا يصاب بأيّ مرض. والإنسان الوحيد الذي لا يصاب بمرض هو الإنسان الميّت! لكنّ تتمّة هذه الفلسفة، وهي ذات منبع ليبراليّ مؤكّد، أن في الوسع ضبط الأزمات وتوقّعها مسبقاً والعمل على حصر آثارها وتداعياتها. وهذا هو الحدّ على الليبراليّة المطلقة (أو بالأحرى مصدر التمييز بين الليبراليّة والنيو-ليبراليّة) من خلال أدوات وآليّات تدخّليّة لإحداث التوازنات وتفادي الاختلالات.

أغلب الظنّ أنّ العالم سيعيش طويلاً على هدي هذه الفلسفة وإملاءاتها.