في المحطة

لم يكن من السهل عليّ متابعة طريقي في ممرات حدائق الحسين، حيث اعتدت أن أمارس رياضة المشي بعيدا عن ضوضاء الشارع ونزق السواقين وعدم إدراكهم لحقيقة مرورية كونية بسيطة هي أن الأولوية دائما للمشاة باعتبارهم الطرف الأضعف في المعادلة، كانت السيدة الثلاثينية تجلس ساهمة حزينة على مقعد خشبي لفت نظري أنها مكتوفة اليدين ما يعبر عن إحساسها بالعجز، بحسب خبراء لغة الجسد، بدت وكأنها تحمل هموم الكرة الأرضية فوق كتفيها.

اضافة اعلان

تحرك فضولي اللعين، وشعرت أنني عثرت على شخصية قصصية تستدعي الكتابة، جلست مجاورة لها، ألقيت عليها تحية الصباح ما أربكها قليلا.

قلت لها: الطقس جميل جدا! ابتسمت باقتضاب، أحسست أن مهمتي لن تكون سهلة، لذلك قررت المغامرة واختصار كل المقدمات وسألتها بشكل مفاجئ: أنت حزينة جدا. توقعت أن تقول لي (مش شغلك)، غير أنها انخرطت في بكاء مرير، ما جعلني أحس بالندم قالت بحرقة: مشكلتي تكبر يوميا! شارفت على الخامسة والثلاثين ولم أزل في ضيافة والدي الذي يتصرف كأب منكوب (بابنة حالها مايل!) وذلك بالرغم من محاولات الترويج الساذجة التي تقوم بها قريباتي.

ادعت خالتي مرة بأني ست بيت ممتازة بمعنى أنني أبدع حين يتعلق الأمر بشؤون التدبير المنزلي من ترتيب وتنظيف وطهي، وركزت على اتقاني البالغ لأنواع الحلويات الشرقية والغربية، علما أنني لا أحسن إعداد فنجان قهوة، فيما نسبت عمتي لي تهمة الوداعة والطيبة والهدوء مع أنني أكثر عصبية من قطة حاصرها طفل شقي، وأثنت ابنة عمي على ميلي للاستقرار والجو العائلي الدافئ وهي تعرف جيدا كم أعشق الحياة التي تخلو من الروتين والتكرار، أما والدتي التي صارت تكثر من الدعاء في الآونة الأخيرة بأن يرزقني بابن الحلال فهي تحثني على التواجد في مناسبات يتوافر فيها عرسان محتملون، لأن الزواج سترة للبنت وكذلك فإن النجاح في العمل والدراسة ووجود الصديقات والانخراط في اهتمامات مختلفة لن تغني عن أهمية استقراري في بيت العدل.

صرت مقتنعة بذلك جراء النق الشديد، وتولد لدي إحساس بالإعاقة الاجتماعية وبضرورة زواجي في أقرب فرصة كون معظم صديقاتي تزوجن وأنجبن، لم أعد أمانع في التعرض لمعاينة أمهات عرسان معظمهم مطلقون أو أرامل أو مشطوبون بالكامل من حيث المظهر والمحتوى، يطرقون بابنا للمرة الأولى بهدف البحث عن عروس ملائمة، المصيبة أنني أفشل دائما في المعاينة.

أحد العرسان رأى أن قامتي طويلة أكثر من اللازم، واعتقد آخر أنني أميل إلى القصر، بينما وجد أحدهم أن طريقتي في المشي تخلو من الرقة وثمة من تحفظ على أسلوبي في الحديث، في حين أصرت أم أحدهم على أن هنالك خللا ما في عيني ما يثير الخوف من إمكانية إنجابي لأطفال بإعاقات بصرية، والحق أنني صرت أرغب في الزواج لأن الكل يريدني أن أفعل ذلك، ولأن المجتمع سيظل يواجهني بهذه النظرة المؤنبة، وكأنني مسؤولة بشكل شخصي عن ظاهرة العزوف عن الزواج في البلد، غير أني أتوق إلى الارتباط برجل غير سطحي، رجل يحبني كما أنا بعيوبي وفضائلي من دون أن اضطر إلى افتعال شيء، وأكاد أجزم أنني سوف أعيش ما تبقى من حياتي في وحدة قصوى كشأن الآلاف من الأردنيات ممن فاتهن القطار رغم انتظارهن الطويل في المحطة!!

[email protected]