في طبائع الرأسماليّة

 

تتزامن الأزمة الاقتصاديّة الطاحنة التي يعيشها العالم اليوم، مع احتفالين كونيّين بذكريين عشرينيّتين راهنتين، إحداهما قمع الحركة الطلاّبيّة والاعتراضيّة في ساحة تيان أن مين الصينيّة، والثانية اكتساح نقابة "التضامن" للانتخابات العامّة التي اضطرّت السلطات الشيوعيّة البولنديّة آنذاك إلى إجرائها.

اضافة اعلان

بهذين الحدثين يمكن القول إن وجهاً أساسيّاً من وجوه عالمنا ومعاصرتنا قد افتُتح، لا سيّما حين يُنظر إليهما كجزء من لوحة أعرض تشمل انهيار الجدار البرلينيّ الشهير وسقوط الكتلة الشيوعيّة بزعامة الاتّحاد السوفياتيّ، ثمّ تفسّخ الاتّحاد المذكور نفسه.

ما حدث في الصين قابل للوصف بأنّه طلب على السياسة. وهو، بطبيعة الحال، طلب نزاعيّ وخلافيّ في ظلّ نظام الحزب الواحد الرافض ذلك، خصوصاً أن الصينيّين أرادوا أن يتفادوا ما شاهدوه في الاتّحاد السوفياتيّ وبلدان كتلته من "فوضى وضياع" المرحلة الانتقاليّة. لكن الدولة الصينيّة، التي مارست سلطتُها قمعَ الطلبة، كانت قبل قرابة عقد قد حسمت في مسألة الاقتصاد. هكذا حرف الزعيم الراحل دينغ هسياو بنغ بلاده عن الاقتصاد الاشتراكيّ – الماويّ وقادها في اتّجاه اعتناق الرأسماليّة. وإنّما بسبب هذا الإنجاز، بات في وسع المعارضة أن تطالب بالحريّات التعبيريّة والتمثيليّة.

أمّا في بولندا، فالطلب أيضاً كان على الحريّة، وفي عدادها الحريّة الاقتصاديّة التي حجبتها وحالت دونها دولة ظلّت تسيّرها مبادئ الاقتصاد الموجّه والممسوك رسميّاً. وإذا كان النجاح الانتخابيّ الكاسح لـ"التضامن" عهد ذاك برهاناً فاضحاً على مدى إفلاس النظام، فإنّه جاء تتويجاً لنضالات عمّاليّة وطلاّبيّة شهيرة تعود إلى 1953. بيد أن ما يستحقّ التوقّف مليّاً عنده أن النضال البولنديّ، وكذلك نضالات سائر شعوب الكتلة السوفياتيّة، ظلّ حتّى 1968 محكوماً بعنوان عريض هو: إصلاح النظام الاشتراكيّ، أو ما أسماه التشيكوسلوفاكيّون "الاشتراكيّة ذات الوجه الإنسانيّ". على هذا النحو انتفض الألمان الشرقيّون في 1953 ثم الهنغار في 1956 بقيادة الزعيم الشيوعيّ الإصلاحي إيمري ناجي، ثم التشيكوسلوفاكيّون في 1968، وأيضاً بقيادة الزعيم الشيوعيّ الإصلاحيّ ألكسندر دوبتشيك. لكنّ هذا العام الأخير، ولا سيّما بسبب قمع "ربيع براغ" بدبّابات حلف وارسو، كان المفصل حيث تمّ تخلّي المعارضة عن "إصلاح" الشيوعيّة والمطالبة الصريحة والكاملة بالديمقراطيّة السياسيّة والرأسماليّة الاقتصاديّة.

هاتان التجربتان وسواهما تقدّم بعض التفسير للإحجام الراهن عن المطالبة بإسقاط الرأسماليّة وهدم نظامها ومجتمعها. صحيح أن الأزمة الحاليّة قاسية، لا سيّما على القطاعات الاجتماعيّة الأفقر، إلاّ أن القناعة السائدة اليوم ترتكز على حقائق ثلاث مترابطة:

الأولى، أن الأزمة جزء لا يتجزّأ من طبيعة الرأسماليّة، كما هي جزء لا يتجزّأ من طبيعة كلّ كائن حيّ. فالموتى والأشياء والجماد هي وحدها التي لا تعاني الأزمات.

الثانية، أن استئصال النظام، بنتيجة الرغبة في استئصال الأزمة، هو استئصال للحياة نفسها، أو باللغة السياسيّة: إقامة أنظمة كالبولنديّ قبل انتخاب "التضامن"، وكالصينيّ حين كان الفقر الشامل يجعل مجرّد التفكير بطلب الحريّة حلماً كابوسيّاً،

والثالثة، أن تطوير أدوات لمكافحة الأزمة الحاليّة، أو إصلاح الرأسماليّة، هو المهمّة الممكنة والمطلوبة، على غرار التصحيح الروزفلتيّ بعد الأزمة الكبيرة الأولى في 1929.

وقصارى القول، إن العيش من دون رأسماليّة (حتّى لو مأزومة، وهي دوماً مأزومة) أصبح وهماً ما إن نضعه موضع التنفيذ حتّى تحلّ الكارثة التي تجعل الأزمة الحاليّة تبدو فردوساً.