كيف مرّ القرن العشرون؟

إذ يداهمنا التفكّك الذي يطيح مجتمعاتنا الواحد بعد الآخر، لا يسعنا إلاّ طرح التساؤل المرّ: ماذا كنّا، نحن العرب، نفعل طوال القرن العشرين؟

ففي القرن المذكور حصلت خمس ثورات كبرى، على الأقلّ، مرّت علينا مرور الكرام تقريباً:

اضافة اعلان

الأولى، كانت الحرب العالميّة الأولى التي أودت بالامبراطوريّتين الهبسبورغيّة، النمسويّة– المجريّة، والعثمانيّة، كما أعادت صوغ الامبراطوريّة القيصريّة الروسيّة بحلّة شيوعيّة. وبكلمة، كان مؤدّى تلك الثورة إنهاء الامبراطوريّات العابرة للحدود، واقعاً وفكرةً سواء بسواء، ومن ثمّ ترسيخ واقع الدولة الوطنيّة.

أمّا الثورة الثانية فكانت الحرب العالميّة الثانية في إفضائها الى نهاية الفاشيّة والنازيّة، ومعهما العنصريّة وتبويب الشعوب والجماعات على أساس العرق والدم، وبالتالي فتح الباب عريضاً للديمقراطيّة التي ضمّت إليها اليابان، بوصفها النمط الصاعد في الحكم والاجتماع.

والثورة الثالثة ابتدأها الاقتصاد الكينزيّ في بريطانيا، بعد الحرب العالميّة الثانية، وبلغت ذروتها مع توسّع فكرة دولة الرعاية. مذّاك، وعلى امتداد العقود التالية، تكرّس واقع التوازن بين حريّة الفرد وتماسك المجتمع، كما تكرّس فهم المواطنة لا كواقعة قانونيّة فحسب، بل أيضاً كواقعة اقتصاديّة– اجتماعيّة.

وكانت الثورة الرابعة سقوط الكتلة الشيوعيّة أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، فانطوى بذلك آخر مزاعم احتكار الحقيقة والنطق بلسان "الجماهير" في معزل عن إرادتها. وفي النتيجة، لم تعد أفكار الحريّة والديمقراطيّة، أقلّه في المجتمعات الغربيّة، تجد ما يسائلها أو يتحدّاها. فهي ضمّت اليها أوروبا الوسطى وأحدثت اختراقات جديّة في أقصى الشرق الأوروبيّ.

وأخيراً، جسّدت العولمة الثورة الخامسة، فتواصل العالم على قاعدة المعلومات وتقنيّاتها، فيما تعاظمت وسائل الثراء ووسائطه، علماً بأن تفاوت التوزيع، المتعاظم بدوره، لا يزال يحدّ كثيراً من نفع تلك الثورة ومن شمولها. وفي هذا السياق شرع يُطرح على الانسانيّة مهمّات غير مسبوقة في البيئة والأخلاق والقيم، كما في اندفاع المشروع الأوروبيّ الى حدود الوحدة السياسيّة، واندفاع مئات ملايين الصينيّين والهنود في ثورتهم الصناعيّة– المعلوماتيّة الجبّارة، وانفتاح أبواب الهجرات للتلاقُح بين ثقافات الشعوب وأديانها وإثنيّاتها.

ما من شكّ في أن بلدان الغرب، وبعض البلدان الأخرى في العالم، لم تحرز هذه الثمار إلاّ بشقّ النفس وبالتضحيات الجسيمة. وما من شكّ، في المقابل، في أنّها أنجبت أيضاً مساوئ وارتكابات هائلة كالمحرقة الهتلريّة، وضرب اليابان بقنبلتين نوويّتين، والحروب الاستعماريّة في الجزائر وفيتنام وكمبوديا، وغضّ النظر عن مأساة الشعب الفلسطينيّ، والفشل في تقريب المسافة بين أقصى الغنى في العالم وأقصى الفقر. بيد أن ما يُلاحظ، في وجه الإجمال، أن التاريخ الأوروبيّ، لا سيّما في القرن العشرين، تاريخ حركة وصراع كانا يفضيان غالباً الى انتصار ما هو متقدّم ونافع لمُنتجيه المباشرين أوّلاً، ولعموم البشريّة، ولو نظريّاً، بالتالي. ويجوز القول، من ثمّ، إن معظم المشاكل التي لم تُحلّ غدا يملك من أدوات الحلّ ومقدّماته ما لم يكن متوافراً في أزمنة أسبق.

في هذه الغضون، يُلاحظ أن تاريخنا في القرن العشرين اتّسم بسمات مغايرة، إن لم تكن معاكسة. فالبطء والركود اللذان تمحورا حول عدد قليل من القضايا، وأبرزها قضيّة فلسطين، كانا أقوى بكثير من الحركة التي ننقاد معها الى أطوار أشدّ تقدّماً. أمّا الانجازات التي وفدت الينا من الغرب فاقتصر معظم ما أخذناه منها على الجوانب الشكليّة المحضة، السيّئة في الغالب. في هذا المعنى، لم نكترث لانهيار الامبراطوريّات بعد الحرب العالميّة الأولى فاستمرّت تراود نُخبنا وجماهيرنا أحلام لبناء امبراطوريّة تكون تارةً إسلاميّة وطوراً عربيّة. ولم نتعلّم من انهيار الفاشيّة، بعد الحرب الثانية، ثم انهيار الشيوعيّة، مع انتهاء الحرب الباردة، ضرورة السير بمجتمعاتنا نحو الدمقرطة والقوننة، أو ضرورة تكوين صورة عن العلاقات الدوليّة تخالف صورتنا عنها. وهكذا دواليك في ما خصّ فكرة المواطنة، أكان بصفتها حقوقاً أو بصفتها واجبات، أو مسألة العولمة التي "مهّدنا" لاستقبالها بمحاصرة الكفاءات القادرة على نقل الثورة التقنيّة إلينا وتهجيرها، وبتراجع في تعليم اللغات الأجنبيّة واتّباع سياسات تضاعف الصدّ للاستثمار الأجنبيّ. أمّا الهجرة فاصطبغت لدينا اصطباغاً حادّاً بصعود أصوليّ في الهويّة التي آثرت أن تعبّر عن نفسها بالعنف، وأحياناً بالارهاب.

هكذا مارسنا، بحصيلة تعامُلنا الأخرق مع هذه المتغيّرات الكبرى، عوداً على بدء، فمضينا في تحطيم الأنصبة السياسيّة والدولتيّة القائمة لصالح حروب أهليّة كنّا نقرأ عنها حين نقرأ عن البسوس وداحس والغبراء. وغضضنا النظر عن نهر جارف من الأفكار السياسيّة والدستوريّة لننكبّ على شرعيّة نستقيها من سِيَر السلف الصالح ومن مساجلات أزمنة لم يعد يربطها الكثير بزمننا.

وهذه العجالة ليست، بالطبع، المكان الصالح لرصد سائر جوانب الاحتكاك بيننا وبين الغرب، كما ابتدأ ونما في القرن العشرين، ولا لرصد كامل الاستخلاصات السلبيّة، حيث لعب النزاع حول فلسطين وطريقة فهمنا له دوراً مؤكّداً في ذلك. إلاّ أن الواضح أن القرن العشرين كأنّه مرّ من خلف رؤوسنا تماماً، على ما تشي الانهيارات التي تضرب المجتمعات والدول وتردّنا شعباً بعد شعب الى سويّة العصبيّات المتناحرة فحسب.

كاتب لبناني