كيف ينتصرون وننهزم؟

كما يحصل بعد كلّ حدث كبير، عسكريّاً كان أم غير عسكريّ، تحوّلت إسرائيل، بعد حرب غزّة الأخيرة، بل في إبّانها، إلى خليّة نقاش لا يهدأ. هناك من ينتقد هذا السلوك ومن يؤيّده، ومن يرى أنه خطأ تكتيكيّ ومن يرى أنه خطأ استراتيجيّ، ومن يحمّل هذا المسؤول أو ذاك مسؤوليّة الأخطاء ومن يثمّن هذا المسؤول أو ذاك ويرهن النجاحات المتحقّقة به، وهناك من يرى في الحدث ضرورة حيويّة لا بدّ منها ومن يراه، في المقابل، تعبيراً عن توحّش الدولة العبريّة، ومن يفكّر في فوائده للسلام ومن يفكّر في مضارّه على السلام. وطبعاً يجدّد الانقسام نفسه بين القائلين بملاءمة الحرب للديموقراطيّة واحترامها والقائلين بإخلالها الصريح بها، الخ...

اضافة اعلان

كلّ سياسيّي إسرائيل وقانونيّيها ومثقّفيها وأكاديميّيها...، وكلّ جامعاتها وصحافتها ومنتدياتها الأدبيّة ومراكز بحوثها...، ينخرطون في النقاش المحتدم فيدلون بدلوهم عن كلّ ما يجول في رؤوسهم، جاهرين بانتقاداتهم، معبّرين عن شكوكهم ومخاوفهم. وعمليّة كهذه تستمرّ بلا حدود، ما عدا حدود الإضرار بالأمن العسكريّ ومتطلّباته. وهكذا دواليك إلى أن تتشكّل إجماعات حول الحدث المذكور تتحوّل، بدورها، عِبَراً ودروساً للمستقبل.

وكائناً ما كان مبلغ الكره لإسرائيل والحقد عليها وعلى أعمالها، تقتضي الأمانة القول إن سلوكاً كهذا وليد وعي نقديّ حديث وثمرته. فالحداثة عقلها نقديّ لا امتثاليّ، يهجس بالتطابق مع ما يراه حقيقة بدل دغدغة المشاعر الجمعيّة والمضيّ في "التبشير بين مؤمنين". وهذا، للأسف، أسفنا، ما يضمن الإسرائيليّين ضدّ الفشل: فمن يناقش ويساجل يتعلّم كيف يتجنّب الأخطاء وكيف يطوّر أفكاراً غير مألوفة أو مطروقة تحتاجها الدول في لحظاتها العصيبة وفي التعامل مع تحوّلاتها المصيريّة.

عندنا، في البلدان العربيّة، يحدث العكس تماماً. فالصوت الأعلى يروح يهلّل للانتصارات ويمجّد حكمة القيادات وصمود الجماهير في آن معاً. ذاك أنه لم يكن في الإمكان أحسن مما كان. هكذا يروح يتلاحق، في وصف أفعالنا، "أفعل التفضيل" بوتيرة يصعب اللحاق بسرعتها: الأنبل، الأشجع، الأعظم...

أمّا الأصوات الأقليّة التي تحاول توجيه نقد هنا وانتقاد هناك، فتجد نفسها مدعوّة للتصرّف بحذر شديد خوفاً من ذاك الإجماع المتأصّل على الرواية الأكثريّة الواحدة. هكذا يصير لزاماً على كلّ من يخالف الرأي السائد أن يمهّد لقوله هذا بلعن إسرائيل وإثبات استنكاره لأفعالها. وهو مضطرّ لأن يكرّر إعلان هذه البديهة كلّما فتح فمه أو أمسك قلماً. لهذا تزخر في مقالات كتّابنا تعابير من نوع "على رغم أن إسرائيل كذا وكذا...، فإن..."، أو "ينبغي ألاّ تحول الجريمة الرهيبة التي ارتكبتها إسرائيل دون ملاحظة كذا...". والأمر حين يُكرّر، للمرّة المليون، يفقد كلّ معنى ودلالة فلا يبقى منه إلاّ إثبات حجم القمع المستدخَل في حياتنا والشالّ للقدرة على التفكير الحرّ. ومما يترتّب على هذا أن نصوصنا تأتي مكرّرة مملّة تردّد الشيء نفسه وتسبغ على الذات التمجيد عينه، فيما تنعدم مصداقيّتها في نظر الآخرين الذين يرون فيها امتثالنا وخوفنا من مخالفة الإجماع أكثر مما يرون الحقائق الفعليّة.

وليس بلا دلالة أننا، في هذا المحيط من التكرار، نكرّر نفس المعاني (قضيّتنا حقّ وعدل...) ونفس التهم (يتآمرون علينا...) ونمجّد نفس الرموز الايجابيّة في تاريخنا (صلاح الدين، طارق بن زياد...) ونشهّر بنفس الرموز السلبيّة التي في تاريخهم (هرتزل، جابوتنسكي، بن غوريون...) التي ما انفككنا عنها منذ حرب 1948! 

 مع هذا، ورغم كلّ محاولات نقّادنا الخجولين والقليلين تبرئة النفس من محاباة إسرائيل، فإن هذه المحاولات المكرورة لا تكفي لحماية أصحابها الذين تنهال عليهم التهم والشتائم: فهم خائنون ومتواطئون مع العدوّ وخارجون عن الأمّة وثوابتها وإجماعاتها، إلى آخر المعزوفة.

وهذا السلوك، لشديد الأسف، وصفة لهزائم لا تنضب ولجهل مكين لا يظهر ما يزحزحه قيد أنملة!