لا نستطيع الهرب من عضويّتنا في هذا العالم

لم يتبقّ وجه من وجوه الحياة في المجتمعات الغربيّة إلاّ بدأت الأزمة الماليّة تنعكس عليه. يمتدّ هذا من برنامج أوروبيّ طموح للفضاء الخارجيّ، تمّ تأجيل العمل به حتّى العام 2016، إلى التسريحات في مؤسّسات العمل والخدمات والإنتاج، والخوف دائماً من الأعظم. كما يطاول المراجعات النظريّة المتواصلة لمبدأ التفريع لوحدات الإنتاج والخدمات التي سبق أن نُقل بعضها إلى الصين والهند، وصولاً إلى سوق الأفكار التي يُتداول فيها ما استجدّ على معاني الدولة والليبراليّة والنيو-ليبراليّة وسواها، نزولاً إلى صواب، أو خطأ، المضيّ في تقديم مكافأة العلاوة، أو الـ Bonus، لمديري المؤسّسات الماليّة والمصرفيّة الكبرى، بما فيها تلك التي تفلس أو توشك على الإفلاس.

اضافة اعلان

حقّاً لم يتبقّ شيء خارج التأثّر. حتّى المسألة البيئيّة، والبرامج الموضوعة لمعالجتها، أو التي هي قيد الإعداد، تخضع للمراجعة. وفي ظلّ التزامن بين الأزمة والانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، باتت تداهمنا عناوين من نوع أن الجنوب الأميركيّ، المعروف بولائه التقليديّ للجمهوريّين، وبتقاليده العنصريّة، قد ينزاح، هذه المرّة، لمصلحة المرشّح الديموقراطيّ "الأسود" باراك أوباما، تحت تأثير الأزمة التي يُحمّل حزب المرشّح جون ماكّين مسؤوليّتها. لا بل تكتب جريدة "أوبزرفر" الأسبوعيّة البريطانيّة أن فوز أوباما المحتمل، في ظلّ الأزمة، قد يدفع حزب مارغريت ثاتشر المحافظ في بريطانيا يساراً، بحيث يبدي اهتماماً غير مسبوق لديه بطرق توزيع الثروة وأشكالها.

مع هذا ففي "العالم الثالث"، أو بعضه على الأقلّ، من يذهب به التفكير الى افتراض النجاة من أزمة كهذه ومن آثارها، مع الإقرار، المباشر مرّة والمداور مرّات، بأن فوز أوباما سيعيد تشكيل الخرائط السياسيّة ورسم الاصطفافات في المنطقة جميعاً. والحقّ أن تفكيراً كهذا لا يعدو كونه، في أحسن أحواله، ممارسة رغائبيّة صرفة مرفوعة إلى مصاف الجدّ.

فـ "العالم الثالث" قابل أن يتأثّر بالأزمة أكثر مما تفعل البلدان الغنيّة والمتقدّمة. وهو ما يمكن أن تستعرضه مجالات ثلاثة على الأقلّ، متمايزة إنما متشابكة في نهاية المطاف.

من جهة، هناك احتمالات انخفاض أسعار النفط التي لن تؤثّر فحسب في البلدان النفطيّة، لا سيّما منها التي لم تدّخر شيئاً من الفوائض التي جنتها في السنوات الأخيرة، بل أيضاً في البلدان التي تتلقّى معونات هذه الدول، أو التي تصدّر إليها عمالتها، اليدويّ منها وشبه اليدويّ والماهر.

ومن جهة أخرى، هناك الدول التي تتلقّى مساعدات الدول المتقدّمة، حيث يُتوقّع أن تنكمش هذه المساعدات في ظلّ الخوف الغربيّ من الدخول في الركود، إن لم يكن الكساد، الاقتصاديّ.

وأخيراً، هناك العمالة المهاجرة إلى البلدان الغربيّة والتي يُتوقّع أيضاً تقليصها. أو أن هذا على الأقلّ ما أعلنته بريطانيا التي اعتبرت أن من غير المعقول الإبقاء على وتيرة الاستقبال السابقة للعمّال الأجانب فيما البريطانيّون يُسرّحون من أعمالهم.

فنحن اليوم نواجه ما هو أوسع عالميّةً من أزمة 1929 – 1933، والأمر ببساطة لأن العالم غدا أكثر عالميّة. صحيح أن الكلام عن "القرية الكونيّة الواحدة" انطوى، وينطوي دوماً، على قدر من التبسيط التفاؤليّ بعيد، خصوصاً لجهة الإغفال عن التفاوت في عائدات هذه الكونيّة، وعن التباين في الاستجابة لها. بيد أن المؤكّد، في المقابل، أن كونيّة ما قد نشأت لم يعد في وسع أحد الفرار منها، أو توهّم التحايل عليها بدعوى "الأصوليّة" و"الخصوصيّة"، ناهيك عن الشماتة بالغرب والولايات المتّحدة. ونحن لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن ما يحدث راهناً يرقى إلى أزمة في البنيان الكونيّ المعولم، وهو ما لا نملك حلاًّ له خارج تصويب هذا البنيان. فإذا كان المدخل الى ذاك التصويب، في البلدان الغربيّة، من طبيعة اقتصاديّة وماليّة، فإن حصّتنا في ذلك من طبيعة ثقافيّة مفادها إقرارنا في عضويّة هذا العالم.