لبنان إلى أين؟

كان لبنان في الأيام الماضية، ولا يزال، أشبه بمرجل يغلي، فيما التوقعات والتكهنات في صدد"حرب أهلية أخرى" على شفاه الكثيرين وألسنتهم. أما المحاولة الحوارية التي أقدم عليها رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، فبقي الالتزام بها، على حرارته اللفظية، أضعف بكثير من أن يردم الهوّة الضخمة بين المتحاورين المفترضين. وكعادته جاء وليد جنبلاط في تفرّده برفض المبادرة يعلن ما قصده باقي السياسيين وتكتّموا عليه.

اضافة اعلان

فقد استعرض"حزب الله" قوته في عاشوراء، بعد توقيعه "اتفافقه" السياسي مع "التيار الوطني الحر" (ميشال عون). ولئن استشعر أمينه العام حسن نصر الله الثقة الكافية لشن هجوم حاد على الولايات المتحدة، ووصف الأكثرية النيابية بـ"الأكثرية الوهمية"، فقد وجدت هذه الأخيرة ضالّتها في الذكرى السنوية الأولى لجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ففي 14 شباط (فبراير) الجاري، كان مهرجان المليون الذي سجّل تصاعد النبرة السياسية الى ذرى غير مسبوقة، ضد سورية والرئيسين السوري واللبناني، بشّار الأسد وإميل لحّود، وفي صورة غير مباشرة ضد

 "حزب الله".

والمعروف أن الأكثرية النيابية كانت في أمسّ الحاجة الى إعادة توكيد حضورها وتماسك مكوّناتها بعد موجة من التراخي والفتور تسبّب بهما عدد من العوامل. ففيما راحت تنتشر المعلومات، مصحوبةً بالشائعات، عن الوساطات العربية التي تراعي وجهة النظر السورية على حساب اللبنانية، حصلت انتهاكات الأشرفية إبّان تظاهرة الرد على الرسوم الدانمركية، فتراءى للبعض أن انشقاقاً يعصف بكتلة 14 آذار (مارس)، فاصلاً جناحها السنّي ("تيّار المستقبل" ودار الافتاء) عن جناحها المسيحي ("القوات اللبنانيّة" وبقايا "قرنة شهوان"). وما لبث أن أُعلن عن لقاء كنيسة مار مخايل الذي ضمّ كلاً من ميشال عون وحسن نصر الله وأخرج الى النور كائناً سياسياً غريباً وهجيناً.

ولم تكد قوى 14 آذار تسجّل نجاحها الملحوظ في وضع اليد على النبض السياسي للبلد، وقدرتها على إدامة الزخم الذي انطلق قبل عام، حتى ألقى نصر الله خطبة سياسية شاملة بمناسبة اغتيال الأمين العام السابق لحزبه، عباس الموسوي، والشيخ راغب حرب. وقد جدد أمين عام "حزب الله"، في قالب من الكلام الحواري والهادئ ظاهرياً، إصراره على"ثوابت" الحزب، وفي الطليعة منها "قدسيّة" المقاومة وبندقيّتها. وبدورها، لم تكن الأجواء هذه بعيدة عن زيارتين الى بيروت، واحدة للوزير الإيراني منوشهر متكي والأخرى للزعيم العراقي الشيعي مقتدى الصدر.

وربما كان أهم من ذلك أن الحزب المذكور عاش، ويعيش، في الفترة الأخيرة أجواء انتصارية ملحوظة. ففيما تراجعت حدّة الضغوط العربية والإعلامية على سورية، بات إيقاع السياسات الاقليمية والدولية يتشكّل استناداً الى التحرك الإيراني. وفي الإطار هذا تشيع في بعض الأوساط الراديكالية "نظرية" مفادها أن الولايات المتحدة وأوروبا ستجدان نفسيهما، في آخر المطاف، مضطرّتين الى التحاور والتساوم مع طهران. ويندرج، في الخانة هذه، الانتصار الانتخابي الأخير والكبير الذي حققته "حركة حماس" في فلسطين، والذي سبقه الانتصار الأصغر الذي حققه "الإخوان المسلمون" في الانتخابات المصرية.

وهي وجهة تقابلها وجهة دولية ملائمة لكتلة 14 آذار، حيث تلاحقت التوكيدات الأميركية، على ألسنة الرئيس جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، على دعم القضية اللبنانية، مثلما تلاحقت الاتهامات والشكوك الأميركية بسورية وسلوكها. وقد أضافت الأمم المتحدة، ممثلة بتيري رود لارسن، مندوب الأمين العام، تحذيراتها وأسئلتها حيال تهريب أسلحة من دمشق الى بيروت. وإذ مضى الرئيس الفرنسي جاك شيراك في تكريم الرئيس الراحل رفيق الحريري وذكراه، تحولت المواجهة مع إيران ومشروعها النووي موضوعاً يشدّ ازر التحالف الغربي ويؤكد وحدته، فيما يحظى الموقف من "حماس" ومن التعامل معها بدرجة بعيدة، وإن لم تكن مطلقة، من تلك الوحدة.

وهذا "التعادل السلبي"، بحسب وصف رئيس تحرير جريدة "السفير" البيروتية جوزف سماحة، يحثّ طرفيه على الحسم، رغم صعوبة الحسم. وهو ما سوف يمرّ بالضرورة في محطات لبنانية حرجة ومتلاحقة. فثنائي "حزب الله " - ميشال عون سيراهن على إضعاف الأكثرية النيابية وإسقاط حكومة فؤاد السنيورة، أو أقلّه تعطيلها من داخلها، تمهيداً لانتخابات عامة يعتقد الطرفان أن في وسعها منحهما الأكثرية. ومن هذا القبيل، يمكن النظر الى الانتخابات الفرعية في بعبدا-عاليه التي كان الثنائي ينوي تحويلها بدايةً لهجوم مضاد داخل المؤسسات قبل أن تعطّله موافقة قوى 14 آذار على المرشح العوني(بيار دكاش).

أما القوى الأخيرة، أي كتلة 14 آذار، فسيكون عنوان تصعيدها بتّ مسألة رئاسة الجمهورية بإسقاط لحّود، وإحداث التجانس المطلوب في الطاقم الحاكم. ولئن غدا من المؤكد أن يوم 14 آذار المقبل سيكون مفصلياً، بوصفه تتويجاً لحملة إسقاط رئيس الجمهورية، فالمؤكد أيضاً أنها وجهة مرشّحة للاصطدام بـ"حزب الله". ذاك أن الحزب هذا، ومعه "حركة أمل"، هما اللذان يكمّلان الجهد اللحودي بمنعهما الطاقم الحكومي من التجانس، والحؤول تالياً بينه وبين الفعالية، مطلق فعالية.

وقصارى القول إن لبنان يدخل أحد أكثر حقبه صعوبةً وتعقيداً، وهي بالتأكيد من أشد مراحل ارتباطه بسياسات المنطقة فيما المنطقة تغدو، كلها، أرض مواجهة صريحة. وفي ظل العجز الداخلي عن الحسم، ربما بات السؤال الأهم ما إذا كان هذا الحسم سيأتي من الخارج عبر تصدّع إحدى حلقاته المؤثّرة. ومن يسمع ما يقوله الإيرانيون وما يقوله، في المقابل، الأميركان يتراءى له أن شيئاً من هذا القبيل يلوح في آفاقنا! 

كاتب لبناني مقيم في لندن