ماذا نقرأ في تراجع الخدمات العامة؟

استمعت إلى برنامج تبثه إذاعة محلية، يناقش واقع الخدمات في منطقة أمانة عمان الكبرى. وقد اتفقت مداخلات المواطنين الذين اتصلوا بالهاتف مع تعليقات الذين كانوا في الاستوديو، على أن الخدمات رديئة بشكل ملحوظ وتستحق الشكوى. ومسّ أحد المُداخلين عصباً حساساً، فذكرنا بعاطفة مجروحة بالحقيقة التي نعرفها جميعاً: لم يعد بوسعنا التفاخر بعمّان كواحدة من أنظف العواصم العربية والعالمية، وكأنّه حرام على الأردن أن يحتفظ حتى بمواضع التميز الرمزية من هذا النوع، ناهيك عن خسران أرصدته الأكثر إيلاماً ودلالة في معظم المؤشرات الحيوية الجوهرية.اضافة اعلان
وقد اشتكى المواطنون الذين تحدثوا في موضوع خدمات الأمانة من تراكم النفايات في الأحياء والشوارع. وقال أحدهم إنه اشترى قدراً من "البنزين" على حسابه، وتولى بنفسه إحراق النفايات المتروكة في حيه لأكثر من خمسة أيام في حرارة الصيف القائظ. وتحدث شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة عن معاناته من غياب الممرات المخصصة لاستخدام الكراسي المتحركة. واشتكى آخرون من "البسطات" التي تحتل الأرصفة، فتضايق المشاة وتقلق أصحاب المحلات التجارية (البسطات وحدها حكاية، لأنّ الدعوة إلى قطع أرزاق أصحابها غير مبررة في غياب توفير العقل الاقتصادي لبديل مقنع). ولا حاجة للحديث عن تحفير الطرق وسوء حال الأرصفة والحدائق العامة الذي يعرفه الجميع.
بطبيعة الحال، عرض البرنامج إحصاءات ومعلومات كخلفية للموضوع. وكان منها أنّ كوادر أمانة عمان تتكون من جيش قوامه ثلاثة وعشرون ألف مستخدم، مشكلة بذلك جسماً بيروقراطياً هائلاً. وذُكر أيضاً أنّ الأمانة ترد بالشكوى من قلة وجود السيارات-الكابسات التي تجمع القمامة، ويبلغ عددها 92 فقط، في حين تمس الحاجة إلى أكثر من 200 للإبقاء على سوية نظافة جيدة في عمان. وفي الواقع، يحتار المواطن في مَن يعاتب، وماذا يفعل أكثر من دفع كومة من الرسوم والضرائب والمقتطعات التي ينبغي أن تكفل له خدمة لائقة لقاء نقوده، وبلا علاقة بالمعونات الأجنبية والقروض الدولية. ويميل الحدس الشعبي إلى الشك، بل وتأكيد أن أموال المواطنين تذهب إلى غير خدمة حاجاتهم القريبة نفسها -ربّما إلى جيوب أشخاص متنفذين، أو أنها تُحال إلى قطاعات لا تتصل بالخدمة اليومية والحيوية مدفوعة الثمن مسبقاً.
إذا كان هذا هو واقع الخدمات العامة في عمان نفسها -العاصمة ووجه البلد- فحدث ولا حرج عن حال البلديات في المدن والأطراف. وقد سمعنا، مثلاً، قصة عجز عدد من البلديات عن دفع فواتير كهربائها حتى فصلوا عنها التيار، وتعطلت فيها الخدمات ومعاملات المواطنين. وحتى في عمّان نفسها، يتحدث الناس عن تمييز واضح في الخدمة بين عمّانَين: شرقية وغربية. لكنني أعرض، على سبيل المثال، ظاهرة انتشار الفئران بشكل ملفت في الحيّ الذي أقطنه في عمان الغربية. وقد سجل الجيران شكوى لدى البلدية البعيدة بضعة أمتار في الشارع المجاور، وما تزال الجرذان تتجول بحرية في مأمن من وحدة مكافحة القوارض المختفية (وما أزال أعاني آلاماً قوية وعرجاً بسبب حركة مفاجئة أثناء مداورة فأر حاول اقتحام منزلي).
هذا التردي الخدماتي لا ينفصل، ولا يمكن أن ينفصل عن اختلال السياقات العامة. إنه يصاحب شكوانا المتصاعدة من ظواهر العنف المجتمعي والجامعي؛ من فُحش الغلاء والبؤس الاقتصادي، وتراجع نوعية التعليم والخدمات الصحية، وبطالة خريجي الجامعات، والقلق العام المبرر من المستقبل. وبعد الاحتجاجات السلمية المسؤولة في بدايات الحراك الأردني، ظهر البلطجية، واشتغل البعض على اختلافات عرقية، ثم كثرت الاشتباكات العشائرية، لتصل الأمور إلى المس بهيبة الدولة ومهاجمة رجال الأمن ومراكزهم.
حبذا لو كانت هذه نظرة شخصية متشائمة. لكنها واقع تؤكده كثرة الشاكين، والذي سيزيد إنكاره فقط من ترديه. والحقيقة أن انتظار تنظيف الأحياء من النفايات والقوارض هو صورة مجتزأة فقط من انتظار الناس العمومي المطول لحدوث انفراجات معقولة، تنظف حياتهم من قوارض القلق والعصبية والإحباط. وفي الحقيقة، لم نشاهد في الفترة الماضية التي كان ينبغي أن تكون منذرة، سوى نكوص مكشوف عن مواجهة الاستحقاقات والإصلاحات الأساسية التي لا بد منها. وفي النهاية، لا يمكن لمنتظري "غودو" الذي لا يصل، سوى الخضوع لعُصاب اجتماعي سيصعب شفاؤه.