ما يبرهنه موغابي وما لا يبرهنه

إذا كانت مصطلحات "تحرّر" و"استقلال" و"إنهاء للعنصريّة" مصطلحات متّفَقاً على إيجابيّتها المنزّهة، فإن ثمّة حالات تحمل على التشكيك بمثل هذه المعاني، أو أقلّه بمدى النضج الوطنيّ والمجتمعيّ للتمتّع بها.

اضافة اعلان

في رأس هؤلاء الباعثين على التشكيك رئيس زيمبابوي روبرت موغابي الذي جدّدت الانتخابات العامّة الأخيرة في بلاده تسليط الأضواء عليه وعلى تاريخه وأدواره.

ففي الستينيات، ظهر موغابي بوصفه قائد "الاتّحاد الوطنيّ الأفريقيّ الزيمبابويّ -(زانو)"، وهو أحد فريقي حرب العصابات الثوريّة ضدّ النظام العنصريّ الأبيض في روديسيا(التي تغيّر اسمها بعد إطاحة ذاك النظام لتصبح زيمبابوي). وعلى مدى صراع دامٍ استمرّ من1964 حتّى 1979، وفي موازاة تخلّي القوى الغربيّة عن حكم الأقليّة البيضاء، تُوّجت العمليّة باتّفاقيّة "لانكستر هاوس" المرعيّة بريطانيّاً ودوليّاً والتي وضعت السلطة في يد الأكثريّة السوداء.

ونظراً الى انتماء موغابي الى قبيلة "شونا" الكبيرة في الشمال، بدا من الطبيعيّ أن يتسلّم رئاسة الحكومة في الحكومة الأولى للعهد الجديد.هكذا ضمنت القبيلة الدعم الثاني له، بعدما كان الدعم الأوّل، إبّان حرب العصابات، قد وفّره المعسكر الاشتراكيّ الراحل بسبب إعلان موغابي انتماءه الى الماركسيّة – اللينينيّة. وبالجمع بين قدامة القبيلة وحداثة تمثيل الطبقة العاملة!، صار موغابي رجل زيمبابوي الأوّل وأحد أبرز رجالات القارّة الافريقيّة.

مذّاك، أي منذ28 عاماً بالتمام والكمال، لم يغادر الرجل الحلبة فاستمرّ حتّى 1987 رئيساً للحكومة، ومنذ ذلك الوقت رئيساً للجمهوريّة بعد إلغاء منصب رئاسة الحكومة وتجميع السلطات والصلاحيّات، التنفيذيّ منها وغير التنفيذيّ، في يديه. وها هي الانتخابات الأخيرة تشير الى أنه، وهو في الرابعة والثمانين، مزمع على البقاء حيث هو، على رغم كلّ شيء. فهو سبق له أن أعلن مراراً، قبل إجراء الانتخابات، أنه لن يسمح للمعارضة بانتزاع السلطة!

لكنْ في هذه الغضون ما الذي فعله موغابي، مناضل الأمس ضدّ العنصريّة؟

لقد كان همّه الأوّل، بعد الإمساك بمقاليد الحكم، التخلّص من مشاركة الفصيل الثاني في حرب العصابات، أي "اتّحاد الشعب الأفريقيّ الزيمبابويّ –(زابو)" بقيادة جوشوا نكومو، النقابيّ وأحد الرموز التاريخيّين لمكافحة العنصريّة في القارّة السوداء. ومقابل تهميش نكومو واتّحاده هذا، ردّت قبائل نديبيلي الجنوبيّة، التي صدر نكومو عنها، بانتفاضة تمّ قمعها بشراسة بعيدة خلال1982-85. ولئن أعيد نكومو الى السلطة شكليّاً، ورغماً عنه كما قال البعض، في1987، فسُمّي نائباً لرئيس الجمهوريّة، إلاّ أنه بات واضحاً أن الحكم الأحاديّ البوليسيّ قد ترسّخ تماماً.

في مقابل التخلّص من المنافسة السوداء، راح موغابي ينزع عن الأقليّة البيضاء كلّ الضمانات التي كفلتها لها اتّفاقيّة "لانكستر هاوس". هكذا مثّل السلوكَ النقيض للسلوك المتسامح الذي رأيناه لاحقاً على يد نيلسون مانديلاّ في جنوب أفريقيا. فقد مورس في زيمبابوي تمييز معكوس هذه المرّة، أدّى الى تنحية البيض عن الحياة العامّة والاستيلاء على أراضيهم من دون إعداد أيّة خطّة لاستثمارها استثماراً مفيداً ومربحاً. أنكى من هذا أن الأرض الخصبة التي صودرت لم تُوزّع على فقراء السود، بل أعطيت لنخبة الحزب الحاكم وقياداته الفاسدة.

وفيما تردّى على نحو نوعيّ أداء القطاع الزراعيّ وعائداته، جاعلاً البلاد التي كانت أغنى بلدان أفريقيا وأشدّها تأهيلاً، تتقلّب من مجاعة الى أخرى، بدأت الكفاءات العلميّة والإداريّة، الاقتصاديّة والماليّة، تغادر زيمبابوي المحكومة بنزعة ثأريّة عاصفة وضيّقة الأفق.

وكمثل سائر الأنظمة الاستبداديّة التي تفتعل، لسبب ولا سبب، أزمات في الداخل والخارج، كي تتجنّب مواجهة فشلها، انخرط موغابي في حرب الكونغو الثانية التي شابها، وعلى نطاق واسع، فساد سرقة الموادّ الأوليّة، كما انخرط في مشكلة تلو أخرى مع البلدان الغربيّة، ما أفضى الى تقليص المعونات ومفاقمة أزمة اقتصاديّة متفاقمة أصلاً.هكذا بات من السمات الراسخة في حياة زيمبابويّ تعايش النقص الفادح في الغذاء والوقود، والتضخّم المتواصل بوتائر فلكيّة، والهجرة الى الخارج. ولم تتردّد "منظّمة الصحّة العالميّة" في أن تعلن أن معدّل سنوات الحياة في زيمبابوي هو الأقصر عالميّاً:37 عاماً للرجال و34 للنساء.

والى إشاعة الخرافات "الوطنيّة" و"الأصاليّة" حتّى في حقل الطبّ، شُنّت حملة غير مسبوقة ضدّ المثليّين الجنسيّين الذين اتُّهموا بأنهم مادّة تصدير استعماريّ لأن أفريقيا "تخلو من هذا الوباء"!. وبات الاستعمار والمثليّون والمعارضون والبيض وناشطو حقوق الانسان مجرّد شياطين يعملون لقهر شعب زيمبابوي، وبهم يتمّ تفسير إخفاقات النظام في سائر المجالات تقريباً.

وهو حصاد بائس لا يبرّر الشعارات النبيلة التي صعد نظام موغابي باسمها. فإذا أمكن لـ"حركة التغيير الديموقراطيّ" المعارضة أن تُسقطه وتمسك، بقيادة مورغان تسافينغيراي، بالسلطة التي كسبتها ديموقراطيّاً، توافرت فرصة جديدة لتقديم مبرّر متأخّر لاستحقاق تلك الأهداف وامتلاك جهوزيّة الارتفاع الى سويّتها. أما إذا تشبّث موغابي مجدّداً، رافضاً نتائج الانتخابات، مصرّاً على الاستمرار في السلطة بقوّة الميليشيات والعصابات التي يسلّحها، فهذا سيكون حجّة أخرى على ان ثوريّي الأمس الذين مثل موغابي أخطر على شعوبهم من الاستعمار ومن العنصريّة.