مشكلتنا في بعض أصلها وفصلها

ما بين العراق وغزّة تُستعاد، في صورة يوميّة تقريباً، تلك الصورة التي غدت، منذ فترة قصيرة نسبيّاً، صورتنا الحصريّة.

فمنذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001 والمسلمون عموماً، والعرب خصوصاً، يُنظر إليهم كأنّهم أقرب الى مرض يحتار الفكر السياسيّ، الذي أُنتج منذ نيكولا ماكيافيللي، في البحث عن علاجات له. وبغضّ النظر عن الدور الذي يلعبه "الصواب السياسيّ" في تلطيف صورة الافتراق وحدّته بين "العرب" و"الغرب"، وما يرافق ذلك من "حوار حضارات" تؤكّد التقاءنا في الجوهر، وكذلك بمعزل عن اللغة التوفيقيّة التي يتحدّث بها السياسيّون العرب الموالون للغرب، وهم عموماً ذوو شعبيّة لا يُعتدّ بها في بلدانهم، فإن "صراع الحضارات" يحتلّ رقعة أوسع فأوسع في المناقشات كما في السلوك العمليّ على جانبي النزاع. فثمّة أعداد أكبر تتضامن وتتقارب في ما بينها في الطرفين، كلٌّ منها يفعل ذلك ضدّ الطرف الآخر مجتمعاً، بل يطوّر هويّة لنفسه ذات طابع قتاليّ في مواجهة الثاني.

اضافة اعلان

وهناك من اقترح، ويقترح، الديموقراطيّة علاجاً لمشاكل العرب، وهناك من يرى العلمانيّة، أو التنوير، أو تغيير وضع المرأة، دواءً شافياً. غير أن الأطروحة التي تقبل الدفاع عنها، وتملك، في رأيي، درجة أرفع كثيراً من الصلة بالواقع، هي أن المشكلة سابقة على العلاجات هذه. فنحن، ما دمنا نتحدّث بلغة الأمراض، أحوج الى مضادّات لا بدّ منها قبل الإقدام على قلع الضرس. ذاك أن ما نفتقر إليه هو الدولة، في حين أن نقص الديموقراطيّة والعلمانيّة والتنوير ومساواة الجنسين من نتائج تلك المشكلة.

وحين نقول الدولة، فهذا لا يعني السلطة التي نملك دائماً، وفي سائر المنطقة، فائض منها، بل المقصود تحديداً طلب الحداثة السياسيّة وأدواتها العمليّة والمؤسّسيّة. ومن البديهيّ أنه من دون حسم أمر الدولة، في معناها العريض هذا، يبقى الكلام عن الديموقراطيّة والعلمانيّة وغير ذلك كلاماً عامّاً بلا معنى.

فالحداثات الأخرى، في الأزياء وطرق المأكل واستخدام التقنيّة وتسيير المؤسّسات، مقبولة الى حد بعيد من العرب، أو على الأقلّ من طبقاتهم الوسطى-الدنيا كما من الطبقات الأعلى في الهرم الاجتماعيّ. هؤلاء غالباً ما يتصرّفون كطالب يريد إغراء أستاذه الذي هو الغرب، معترفين له بالأستاذيّة، وراضين بأن يعرّضوا أنفسهم لامتحانه الدائم. لكنْ في الوقت نفسه، وحتى عند البورجوازيّين والأريستوقراطيّين الأكثر تقليداً للغربيّين ومعرفةً بلغاتهم وطرق حياتهم، ما إن تحضر السياسة حتى يحضر معها التوكيد على المسافة التي تفصلنا عن الغرب، والتحذير من مطامعه "الامبرياليّة" التي باتت في السنوات الأخيرة، ومع صعود اللغة الدينيّة، توصف بالصليبيّة. لا بل فجأة قد ينعطف الذين كانوا يرطنون بكلمات إنكليزيّة وفرنسيّة، ويتباهون بملابس كريستيان ديور وأرماني فنسمعهم يستشهدون، بغضب وعصبيّة، بأبيات شعر فخورة تعود الى ما قبل الإسلام.

والحقّ أن في وسعنا أن نتحدّث عن فصام عربيّ واسع الانتشار تولّد عن هذه العلاقة غير المستوية بالغرب. فالانضمام الى "منظّمة التجارة العالميّة" أو نيل جائزة نوبل هما مقياس النجاح في الاقتصاد والثقافة، تماماً كما أن اشتهار لاعب كرة قدم ذي أصل جزائريّ كزيدان زيدان في فرنسا هو البرهان على الكفاءة. مع ذلك يبقى الغرب، حين يصل الأمر الى السياسة، هو العدوّ بامتياز والذي لا نعرّف أنفسنا كجماعة إلاّ ضدّيّاً حياله.

وهذا مما يحفز على رصد أسباب العقدة المتمكّنة من المسلمين عموماً ومن أبناء الشرق الأوسط العربيّ خصوصاً، وذلك من منظور المسألة السياسيّة والافتقار إليها والى القيم والكيفيّات التي تلازمها. لكن المهمة التي لا بدّ منها ستكون رصد النتائج التي ترتّبت على ذاك الافتقار، أتجسّدت في حروب أهليّة وأنظمة استبداد عسكريّ أم في ظاهرة الشهادة وحبّ الموت المتفشّية راهناً.

ومن مجموع الأسباب والنتائج هذه، يمكن القول إن وعياً ضدّيّاً هو الذي استولى ويستولي على مخيّلة سكّان هذه المنطقة من العالم. وللأسف يبدو هذا الوعي أشبه بإيديولوجيا شعبيّة عابرة للطبقات الاجتماعيّة والفئات الإثنيّة والدينيّة على اختلافها. فكأنّما ثمّة كتلة تتضخّم عدداً بيننا، وتتزايد رسوخاً في قناعتها، وتوسيعاً لدائرة تلك القناعة التي تفيد بـ"ضرورة" تفجير أنفسنا لعلّ بعض الشظايا تصيب... "الغرب"!