ولكن أين سوريّة وإيران؟

في أحد البرامج على شاشة تلفزيون عربيّ، توجهّت المذيعة الى ناطق بلسان الدولة الإيرانيّة وسألته ما معناه التالي: لقد أعلنت طهران أنها ستتدخّل في حال تعرّض سوريّة لعدوان إسرائيليّ، وها هو لبنان يتعرّض لعدوان إسرائيليّ، فلماذا لا تتدخّلون؟ وبكثير من التلعثم والارتباك، وبكلمات يقضم بعضُها أطراف بعضها الآخر، قال المسؤول الإيرانيّ ما مفاده ان في لبنان"حزب الله"، وان الحزب هذا يملك من الشجاعة والبسالة والفروسيّة ما يكفي لإنزال الهزيمة بالدولة العبريّة.

اضافة اعلان

وكلام من هذا الصنف يتركنا أمام سؤال ربّما لم يتبادر الى ذهن المتحّدث الإيرانيّ: ألا توجد في سوريّة قوّة تملك من الشجاعة والبسالة والفروسيّة ما يملكه "حزب الله" اللبنانيّ؟ ماذا، مثلاً، عن الجيش السوريّ، وهل هو أقلّ بأساً وأشدّ احتياجاً الى الدعم من الحزب المذكور؟

واقع الحال ان الكلام الإيرانيّ هذا إذا ما أُخذ بحرفيّته عُدّ، بحقٍّ، إهانةً لسوريّة ولجيشها ونظامها، إن لم يكن لشعبها أيضاً. وهذا ما لا يجوز أن يصدر عن أيّ كان، مسؤولاً كان أم غير مسؤول، إيرانيّاً أم غير إيرانيّ.

لكن ما أراد المتحدّث، من دون توفيق، أن يكبته ويتكتّم عليه هو، في أغلب الظنّ، ذاك الحرج العميق الذي يسم موقف طهران ويغلّف بعض سلوكها. فإذا كان "حزب الله" يخوض معركتها ضدّ الولايات المتّحدة، بنفسه وبشعبه وبلده، منذ خطف الرعايا الأجانب في بيروت الثمانينيات حتّى اليوم، فكيف يمكن أن تبقى هي مكتوفة الأيدي فيما ترى، بأمّ العين، ما يحصل لحليفها الصغير وبلده؟ وإلى متى ستبقى حربٌ مثل هذه تخاض بواسطة لبنان وحده واللبنانيّين وحدهم؟

والمسألة نفسها تصحّ في النظام السوريّ الذي يعرف القاصي والداني أيّة خدمات من عيار استراتيجيّ أسداها إليه"حزب الله" ولا يزال يسديها. فالأخير حلّ طويلاً محلّ الجيش السوريّ في خوض معركة الجولان، كما أحلّ الجنوب اللبنانيّ محل الهضبة المذكورة، مُبقياً لبنان وشعبه في دوّامة العنف والموت المفتوحين، بل المتصاعدين. وقبيل أن يرحل الجيش السوريّ من لبنان، مُحمّلاً بمعنويات شديدة التدنّي، لم يجد حسن نصر الله إلاّ رستم غزالة، المندوب السامي على لبنان حتّى تلك اللحظة، يُهديه"بندقيّة المقاومة". وعلى رغم هذا كلّه لا نجد، في المقابل، أيّ دعم يتعدّى المواقف اللفظيّة والوقفات الخطابيّة والمنبريّة. فلماذا، يا ترى، لا تُفتح الآن جبهة الجولان فيما مقاتلو"حزب الله"، وكذلك المقاتلون الفلسطينيّون في غزّة، في حاجة إلى كل دعم يوفّره لهم فتح جبهة عربيّة أخرى؟

قصارى القول إن التحالف السوريّ- الإيرانيّ لا يكتفي بخوض الحرب بواسطة اللبنانيّين، بل يذهب أبعد من ذلك فيتّخذ موقف المتفرّج البريء حين تقع الحرب، تمهيداً لتولّي التفاوض، المباشر أو المداور، بعد انتهائها. وهذا كي لا نقول إن إيران تغنم من تأثيرات الحرب تلك مزيداً من الارتفاع في أسعار براميل النفط الخام، بينما تغنم سوريّة من تأثيراتها على اقتصادها الوطنيّ على شكل عشرات ملايين الدولارات ينفقها السيّاح العرب المنكفئون عن بلد يحترق، وكذلك اللبنانيّون والأجانب المغادرون بيروت والساعون الى المغادرة عبر دمشق.

لقد مارس التحالف السوريّ- الإيرانيّ أكبر عمليات الخداع وأقلّها ضميراً وأخلاقاً، لكنها في الآن نفسه أشدّها اصطباغاً بالمزاعم الايديولوجيّة السامية تُستخدم للتستّر على مطامع الدول وهي تلهو بمصائر شعوب وبلدان وجماعات"شقيقة" أصغر وأضعف.

فكأنّ اللبنانيّين اليوم أمام صيغة أخرى مما عُرف طويلاً بالحالة البولنديّة، حيث عاش ذاك البلد لقرون نهباً لتنازُع ضارٍ لا يفتر بين الجار الألمانيّ في الغرب، والجار الروسيّ في الشرق. وبسبب تنازُع كهذا، مشوبٍ بكلّ أنواع الانتهازيّة والقسوة تمارسهما الدولتان الكبريان، جُزّئت بولندا ثلاث مرّات في تاريخها وكانت، في جميع الحروب التي تعيشها القارّة الأوروبيّة، تدفع بعض أعظم الأكلاف الدمويّة والاقتصاديّة.

وبالعودة الى لبنان، تقضي النزاهة القول إن عملية الخداع السوريّة- الإيرانيّة هذه ما كانت لتجد طريقاً سالكة لولا وجود قطاع من اللبنانيّين أخذ على عاتقه أن يقبل استحماره، لا بل أن يوافق طائعاً، بعد

الاستحمار، على انتحاره ونحر بلده وشعبه على يد بربريّة إسرائيليّة تقتل وتدمّر وتنتهك من دون أن يرفّ لها جفن. وكان آخر الذين استحمروا اللبنانيّين (والفلسطينيّين والعرب) بجرعة رفيعة من الخرافة، السيّد غلام علي حدّاد عادل، رئيس البرلمان الإيرانيّ. فهو لم يتردّد في تبشيرنا بأن الحرب في بدايتها، إلاّ أن النتيجة، في عرفه، مقرّرة سلفاً: انتصار كامل يعود معه الفلسطينيّون الى فلسطين، ويرجع معه الإسرائيليّون الى البلدان الأوروبيّة التي قدم منها آباؤهم وأجدادهم الى فلسطين. أمّا القدس فيعتصرها الشوق للقائنا القريب كيما نؤدّي فيها صلاة القيامة. وتستند"التوقّعات" هذه الى تحليل عميق مفاده أن دماء آية الله الخميني تسري في شرايين حسن نصر الله.

وحدها آلام البشر ما تمنعنا من القهقهة.