ضحايا التحرش.. صمت يهشم الروح أم بوح يفضي لمصير مجهول؟

تحرش- صورة تعبيرية
تحرش- صورة تعبيرية
سارة زايد –يحدث اعتداء جنسي فتصمت كثير من الفتيات، في حين تبوح أخريات لمن يثقن به في لحظة تتلاشى الثقة بكل شيء، وما بين الخط الزمني الفاصل بين الاعتداء والبوح، تعيش الضحية صراعا داخليا طويلا، تتخلله حالات هلع وذعر وترقب أطول من لحظة الاعتداء القصيرة، وربما لسنوات.اضافة اعلان

لذا إن كانت الفتاة المُعتدى عليها تعتقد أن أسوأ ما قد يحدث لها هو أن يتجاوز أحدهم قدسية جسدها، أو يخدش كينونتها، فإن مواجهة عائلتها بما جرى، معركة قد لا تقل قسوة عن لحظة الاعتداء، عندها فقط ستكتشف: أي الحدثين كان أشد فتكاً للروح؟، وهو مناط بكمية الوعي لدى العائلة، أو ما يتبقى منها عندما تفقد صوابها. 

ليست مذنبة لكنها ليست ناجية!! 


يتقاطع مصيرا ضحيتي اعتداء هما رند وهديل، فكلتاهما أصابهما من الهلع والفزع ما تخفق الكلمات عن وصفه عندما تعرضن لتحرشٍ جنسي كاد يتحول لولا تصديهما للجناة بعزم وجسارة إلى اغتصاب حتمي. جرح رند كان أكثر إيلاماً من هديل، حيث غرس بعمق في قلبها على حد تعبيرها، فعائلتها، المصدومة، لم تبرئ الضحية من ذنب المعتدي، فهي بالنسبة لنمط تفكير محيطها، ما هي إلا طرف آخر في التحرش “ليست مذنبة، لكنها ليست ناجية”، بعكس هديل التي دأبت أسرتها على إخراجها من إطار كراهية الذات وتأنيب الضمير اللذين لازماها لسنوات طوال، وهو ما قلل من خدوش روحها وخفف من ثقل الألم الذي لحق بها.

رند.. تعاقب مرتين من المعتدي ومن أسرتها 


“لا أملك صورة واضحة لما حدث لي، ومضات متكسرة بجودة سيئة لا أذكر منها سوى صوتي الأجش وهو يتوسل لأمي بأن تكف عن ضربي بعد أن صارحتها بحقيقة تعرضي “لتحرش جنسي من قبل رجلٍ مسن مجهول في حارة متاخمة لبيتنا”. تقص رند “اسم مستعار” ذات الـ21 عاماً تفاصيل حادثة الاعتداء التي تعرضت لها صيف 2020 وما تبعها من زجر وسخط والدتها، حيث ظنت الفتاة أن “في مصارحتها لأمها التي لطالما كانت تعتل همها” على حد تعبيرها، مواساة لروحها المكسورة. “عدت إلى البيت محطمة ولاهثة بعد أن ركضت ما يقرب الثلث ساعة دون توقف هرباً من الرجل الذي لمسني مراراً وتكراراً. عندما وصلت منزلي أخيراً، وجدت أمي في انتظاري، أويت إلى حضنها لأخبرها بما حدث، عندها بدأ لساني يتلفظ بكلمات مبعثرة: شاب، لمسني، قاومت، تحرش، هربت. عندها قامت أمي بجمع كلماتي المتقطعة وأعادت تركيبها في جملة شبه مفيدة، فاستشفت حقيقة قاسية، لكنها الحقيقة!، لتتحول بعدها من ذلك الملاك المسالم إلى كائن مرعب لم يسبق لي أن رأيته في حياتي، تقول رند. 

نلوم الضحية ونعذر الجاني!! 


لم تجرؤ الشابة طوال حياتها ولو لمرة واحدة أن “تجس نبض” أمها عندما يتعلق الأمر بحدوث مكروه لها، وما تعنيه بالمكروه هو كلمة “اعتداء” التي تخشى حتى اليوم أن تتلفظ بها أمام نفسها. “لكني في ذلك المساء، عرفت جيداً أن ما سيصيبني من جرح في القلب وندب دائمة في الذاكرة، ويُلحِق بي من ضرب وقسوة، سيهشم روحي أكثر بكثير من الحدث الشنيع ذاته. فاللوم، كل اللوم، لم تلقه أمي وجلّ أسرتي إلا عليّ أنا، ربما لأنني الأنثى، أما تلك الذئاب الضالة بل المستذئبة، فهي معذورة، لا حول لها ولا قوة أمام هذا السحر”، تختم رند حديثها.

رفضت والدة الفتاة الناجية التحدث مع “الغد” رغبةً منها بتناسي ما حصل، مكتفية بالقول: “إن كنتم ستأخذون شهادة ابنتي، على الأقل ضعوا اسماً مستعاراً حتى لا نصبح علكة بتم الناس”. 

هديل ضحية “لعبة اللمس” 


نشأت هديل في كنف عائلة مُحِبة ومترابطة، حيث كانت الفتاة المدللة الوحيدة التي أنجبها والداها بعد 12 عاماً من زواجهما. تقول هديل: كنت في الخامسة من عمري، وبذريعة “أنها مجرد لعبة أطفال”، لطالما احتجزني أحد أقاربي ممن يكبرني بـ15 عاماً في غرفته حيث نكون فيها نحن الإثنان فقط، كنت طفلة وحيدة، يذهب والداها للعمل من شروق الشمس حتى غروبها، لا تملك أحداً لتلعب معه، اعتبرته صديقاً لي، وظننت أن جميع الأصدقاء يلعبون هذه الألعاب مع من يصغرونهم سناً، “ألعاب اللمس” كما أَطلقتُ عليها.

واصلت هديل حياتها وأتقنت رغماً عنها فن تمثيل كأن شيئاً لم يكن، تناست وتغاضت عما حصل، ولطالما اكتفت بمواساة نفسها قائلة: “هديل.. ما حدث لك يحدث كل يوم مع كل فتاة، ما حدث لكِ لم يكن بهذا السوء”، لكن هذا الثقل في داخلها لازمها ولم يخف حمله يوماً. تؤكد هديل: ربما ولحسن حظي أن سنين طفولتي ومراهقتي لم تحمل في ثناياها سوى هذه الذكرى الوحيدة الموجعة، لكن علاقاتي مع الجنس الآخر وطريقة رؤيتي له كانت دائماً بعين الاحتقار والغضب، باستثناء والدي. 

“صدقوني على الفور” 


ما استمدته هديل من حب عائلتها غذّى قوتها وجرأتها بأن تروي لهم ما حصل لابنتهم المدللة “هدهد”، كما يحبان أن ينادياها دوماً.

“صدقوني على الفور”، تقول الشابة. بكى والدي، أنّب نفسه كثيراً وغضب من صمتي قليلاً، كما كان الحال مع أمي، وكم وددت لو أني مت قبل أن أرى دموعهما. “اليوم، وبعد مرور 15 عاماً على الحادثة، أصبحت على وفاق مع الفتاة الصغيرة بداخلي، أما ذاك المفترس فقد نال نصيبه من نظرات العار والوصم المستحقين ربما لم يدخل السجن أو يعاقب قانونياً لأسباب سأحتفظ بها لنفسي أنا وعائلتي، لكن يكفيه أن يبقى سجينا أبديا لسوء ماضيه وعاره. تنهي هديل كلامها وفي نبرة صوتها حزن يتخلله كثير من الفخر والرضا”.

 الخوف من الشكوى.. لا أرقام رسمية 


من جهتها، تؤكد منسقة برامج حماية المرأة من العنف في اللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة، دانيا الحجوج، أنه لا يوجد أي إحصاءات فيما يتعلق بالاعتداء الجنسي، مع ذلك، ففي السنوات السابقة، تم تلقي شكاوى قليلة جدا جدا، عازية ذلك إلى الخوف المجتمعي والخوف من ترك العمل، لذلك قلما يتم الإفصاح عن حالات التحرش الجنسي، وخاصة بعد جائحة كورونا حيث ازداد العنف 33 %. 

“اعتراف الضحية لا يعني الإقرار بذنب” 


يقول الاختصاصي النفسي باسل الحمد: نحن في مجتمع يعتبر أن اعتراف ضحية الاعتداء الجنسي لعائلتها بما حصل وكأنها تعترف باقترافها ذنباً، وكأنها هي من قامت بأمر جلل، فالاعتراف لا يعني ارتكاب ذنب أو اقتراف جريمة. ويضيف الحمد: علينا التخلص من عقلية لوم الضحية على وقوعها ضحية الاعتداء الجنسي، كذلك التوقف عن لومها لشكلها وتصرفاتها ولباسها وعلاقاتها كما لو أنها هي من جلبت الموقف لنفسها ووضعتها في هذا الإطار. “نحن في مجتمع إن لم يجد طريقة للوم الفتاة، سيؤنبها لمجرد خروجها من المنزل”، يؤكد الحمد، ويتابع: يجب على الأهل تقديم المساعدة لابنتهم الضحية، وهو ما يتطلب بدايةً الذهاب إلى السلطات الأمنية المختصة، والمستشفى حتى يتم تثبيت الواقعة كي لا يتم التغافل عن أي أدلة قد تكون مفيدة جنائياً.

كما يجب التدخل الطبي والنفسي السريع لمساعدة ضحايا الاعتداء الجنسي، وطمأنة الضحية والابتعاد عن اللوم والمقاربات والسؤال عن الأسباب، بالإضافة إلى ذلك، علينا توثيق القصة كما حدثت، مع مراعاة أنه عند إخبار الضحية للقصة، قد يكون هناك تناقضات، وهي من طبيعة الصدمة التي تعرضت لها الفتاة وليس لذلك علاقة بالكذب إطلاقاً. 

الأخطر هو عقاب الفتاة لنفسها 


يرى الحمد أن الأخطر فيما تمر به الفتاة هو عقابها لذاتها وشعورها بالذنب تجاه نفسها، نتيجة لما وقعت فيه من أذى، لكنه يؤكد: يجب الانتباه أن الحادث نفسه هو حادث مؤلم لعدة أسباب: فهو تعدٍّ على منطقة حيز شخصي وكرامة الفتاة وإحساسها بالأمان، وتعد على إحساسها بالحياة، إذ أن الاعتداء الجنسي فيه تهديد لحياة الشخص، حيث يعتقد أنها أصبحت على المحك، ومن هنا يتشكل “اضطراب ما بعد الصدمة” للفتيات اللواتي تعرضن لاعتداء جنسي.

ويتابع الحمد: قد تكون ردة فعل الأهل والمجتمع مؤذية جدا، وقد تُسهم في تشكيل “الوصمة” أو تدني تقدير الفتاة لذاتها، إذ أن صورتنا عن أنفسنا تتشكل عن طريق نظرة الآخرين لنا بشكل أكبر من نظرتنا لنفسنا. 

الطريق إلى التشافي النفسي الأسرع.. ومضة أمل


يقول باسل الحمد: إذا كانت العائلة تتمتع بنمط اتصال مفتوح وروابط سابقة من الحديث والثقة، وكانت الضحية تملك قناعة بأن عائلتها هي ملاذها الآمن في حال واجهت أي تحد في الحياة، عندها ستطمئن الفتاة ويساعدها ذلك في التخفيف من شعورها بالذنب.

ويتابع: يجب أن يكون التواصل ثنائياً ومفتوحاً، بمعنى أن الأهل أيضاً عليهم أن يشاركوا أبناءهم خبراتهم بالحياة والصعوبات التي يواجهونها، بحيث يدرك الأبناء أن هذه العقبات أمر طبيعي يمكن مشاركته، كما يجب كسر حواجز الكتمان فيما يتعلق بفوبيا الأمور الجنسية، بحيث يكون موضوع الجنس هو موضوع للنقاش بين الأهل والأبناء من عمر مبكر، إذ يجب أن تكون مواضيع العلاقة بين الرجل والمرأة جزءًا من النقاشات دون أن نجيب على أسئلة صغارنا بـ”عيب، حرام، ولساتك صغير”.

“عندما ننكر وجود العواطف الطبيعية في سن المراهقة قد يكون ذلك من الأسباب التي أدت للوقوع ضحية اعتداء جنسي من أقرب الناس”، يقول الحمد.

كيف تتخطى الضحية ما حدث؟ 


يؤكد الحمد أن أمن الفتاة يتحقق من خلال العلاج النفسي، فالعلاج النفسي هو الخط الأول الصحيح والصريح الذي يمكن التعامل معه، ولا بديل عنه في التعامل مع حوادث الاعتداء الجنسي، وأي أساليب علاجية أخرى لن تكون مفيدة أو مرضية.

ويتابع: يكون العلاج النفسي من خلال تدخل طبي دوائي اجتماعي، يمكن أن يمتد لسنوات، كما أن التدخل القانوني ومعاقبة الجاني وحجزه سيشعر الفتاة بالأمان ويساعدها على تجاوز هذه المعضلة. متى تتوقف العائلة عن لوم الضحية وتبدأ بمعاقبة الجاني؟ 

“تتوقف العائلة عن لوم الضحية عندما تتوقف عن رؤية المرأة كموضوع جنسي، وعندما تتوقف عن الاعتقاد بأن كرامتها وشرفها يعتمد على جنسانيتها، فشرف الإنسان متعلق بأفعاله وليس بجنسانيته”، يوضح باسل الحمد.

ويشير إلى أن جنسانية الإنسان تكون جزءًا من شرفه إن كان فيها اعتداء على الآخرين، المعتدي هو من ينتقص شرفه، وليس الفتاة التي تم الاعتداء عليها، فالأخيرة لم تنتقص بشيء من نفسها. جلسات الدعم النفسي لتجاوز الأزمة يؤكد الاختصاصي النفسي أن جلسات الدعم النفسي المصممة كجلسات يقودها أخصائيون نفسيون مع الضحايا، بحيث يخضعون لبرامج علاجية فردية وأيضاً برنامج دعم مع أقرانهن من النساء اللاتي تعرضن لذات التجربة قد يكون مفيدا.

ولكن جروبات المصارحة والفضفضة هو “حكي فاضي” بالنسبة للحمد، وما هو إلا منصة لنقل “الترومات” (الصدمات) بين الفتيات والتعزيز من تواجدها لديهن. ويختم الحمد حديثه: في مجموعات الدعم النفسي، ينتبه الأخصائي على أي تفاعلات قد لا تكون حميدة مع قصص الاعتداء الجنسي، حيث يوجه الأشخاص لطرق الإفضاء الصحيحة فتكون مقننة، أما جروبات الفضفضة حيث تكون البيئة هناك غير منضبطة، ستعزز من الحالة الصدمية لدى الفتيات ضحايا الاعتداء الجنسي.