الصحافة الورقية بين زمنين

كلما جالست أحدهم قال لك إن الصحافة الورقية في طريقها إلى الاندثار، ويضرب لك أمثلة عن إغلاق الصحف في دول كثيرة، عربية وأجنبية.اضافة اعلان
اعتقد أن الصحافة الورقية ستبقى قائمة، إذا اديرت باعتبارها صناعة، وليس عملا سياسيا، أو حزبيا، يعتمد على عناوين وحاضنات محددة، وبهذا المعنى فإن الصحافة الورقية، مع الإقرار بالتحديات التي تواجهها، لن تختفي، بل ستظهر عبر نمطيات جديدة، نراها اليوم، في نماذج صحافية لامعة، تربط الطبعة الورقية، بوسائل التواصل الاجتماعي والموقع الإلكتروني، وبالتخطيط لحملات الإعلان بطريقة مختلفة، مع فهمها لطبيعة التحولات في الإعلام والجمهور والإعلان.
كيف يمكن أن يتصور البعض أن الصحافة الورقية سوف تختفي تماما، وهناك إحصاءات عن دول مثل الهند وغيرها، تنتعش فيها الصحافة الورقية، هذا على الرغم من وجود الإنترنت في تلك الدول، الذي لم يؤد إلى إنهاء الصحافة الورقية، وعبر هذه النقطة بالذات، فإن الانطباع الأخطر، يرتبط بقناعة البعض بالقاعدة التي تقول إن الإعلام الإلكتروني، أو زيادة عدد مستخدمي الإنترنت، ستؤديان بالضرورة إلى إنهاك الصحافة الورقية وإزالتها عن الخريطة، وهذه قاعدة يجب أن تبقى قيد المتابعة والتدقيق وإعادة التقييم بين فترة وأخرى.
من ناحية مهنية، يبدو التحدي الأهم على صلة بالمحتوى، أمام سباق الأخبار، والمعلومات، وما يسمى الانفراد الصحفي أو السبق، وهذا المحتوى، هو الواجب خضوعه للتعديل لابتكار أنماط صحفية خاصة وجديدة، تعوض حرق الأخبار، يوميا، عبر الإعلام الإلكتروني، أو شبكات التلفزة، أو وسائل التواصل الاجتماعي.
الصحف الورقية سابقا كانت تحتاج إلى يوم كامل حتى تظهر طبعتها، وتصل معلوماتها إلى القارئ، لكن تدفق المعلومات في دقيقة واحدة، بات يسلب الصحافة الورقية انفرادها أو خبرها، والحل هنا، ليس صعبا، ويكمن في تطوير مواقع الصحف الورقية الإلكترونية لتدخل في سباق الانفرادات، مثلما يمكن تحويل الطبعات الورقية إلى منصات للآراء والمقابلات والتحقيقات ذات القيمة الانفرادية، تعويضا، عن حالة حرق الأخبار التي يعاني منها الإعلام الورقي اليوم.
ربما يقول كثيرون إن الأزمة الأهم، تتعلق بتمويل ونفقات الصحف، وما يشهده الإعلان من تحولات كبرى، وانجراف نحو وسائل بديلة، وهذا أيضا ملف مهم جدا، لكن معالجته بحاجة إلى إصرار من جهة، وخطط، من أجل صون تمويل الصحف عبر الإعلان، وعدم السماح بإخراج الصحافة الورقية من السباق.
الروح السلبية التي تقول لك إن كل الأجيال الجديدة تستعمل أجهزة الموبايل، من جهة، وغيرها من أجهزة للتصفح، وأن القدرة البصرية على قراءة الصحيفة، تراجعت كثيرا، لا تتنبه أيضا إلى أن صناعة الورق والكتب والصحف والمجلات، مؤهلة أيضا للازدهار الشديد، وهناك مؤشرات على تراجع في موجات الانفضاض عن كل ما هو ورقي، عودة إلى الورقي بما يعنيه تصفح الكتاب أو المطبوعة.
إذا ادركنا أولا وأخيرا، أن الصحافة باتت صناعة، ولم تعد مجرد واجهات سياسية، فإن القائمين على هذه الصناعة، لديهم حلول كثيرة، على الرغم من كل المصاعب، وأبرز هذه الحلول يرتبط أيضا، برشاقة الصحف، وعدم تورطها في أطنان الورق المستورد دون جدوى، من حيث الكلفة ومردودها، إضافة إلى ما يتعلق بترشيق بقية الكلف، حتى تكون الصحف قادرة على الاستمرار.
ما يزال الوقت مبكرا، لحسم المآلات، والقول إن الصحافة الورقية في طريقها إلى الاختفاء، خصوصا، إذا اثبتت الصحافة الورقية، مصداقيتها العالية، من جهة، وعدم تذاكيها على القارئ، وقدرتها على اقناع رؤوس الأموال، بما تعنيه من مؤسسات وشركات، حول كونها الخيار الأول، لحملات هؤلاء الإعلانية، وهذا يعني في المحصلة، أن هناك أزمة في العالم، لكن يمكن تجاوزها إذا قررت الصحف أن تبقى، وأن لا تتراجع أمام الضربات والتحولات.