جدل الكتب المدرسيّة والبحث بـ"المناقيش"

نارت قاخون

لتوضيح سياق العنوان ومقصوده أقول: ينقل "السيوطيّ" في كتابه "الإتقان" عن "البلقينيّ" أنّه قال:" استخرجتُ من "الكشّاف" اعتزالاً بالمناقيش، منها أنّه قال في قوله تعالى: ((فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز)): وأيّ فوز أعظم من دخول الجنّة؟! أشار به إلى عدم الرؤية!" ومعنى ذلك أنّ "البلقينيّ" كان يبحث عن مواطن المذهب الاعتزاليّ في تفسير "الكشّاف" للزمخشريّ حتى تلك الخفيّة التي لا تظهر للقارئ، فالمناقيش جمع "مِنقاش" وهو "مِلقاط صغير" يستخدم لاستخراج الأشياء الصغيرة، فـ"البلقينيّ" يرى في قول "الزمخشريّ":"وأيّ فوز أعظم من دخول الجنّة؟" دليلاً على نفي "رؤية الله في الجنّة"، وهذا مذهب المعتزلة، فلو كان "الزمخشريّ" يؤمن بالرؤية لما جعل دخول الجنّة أعظم فوز؛ فأعظم فوز من وجهة نظر "البلقينيّ" والقائلين برؤية الله في الجنّة هو هذه الرؤية!اضافة اعلان
هذا التأويل المتكلّف لكلام "الزمخشريّ"، وتحميل ظاهر الكلام أكثر ممّا يحتمل، سوّغه عند "البلقينيّ" معرفته بأنّ "الزمخشريّ" معتزليّ، وهذا أمر معروف لا يُجادل فيه، لذلك تضمّن موقف "البُلقينيّ" حكماً مُسبَقاً دفعه للبحث بـ"المناقيش" عن التفاصيل الخفيّة التي تدلّ على المذهب الاعتزاليّ من وجهة نظره.
بطريقة مشابهة لطريقة "البلقينيّ" يجري الآن جدال حول الكتب المدرسيّة، ولكن بفرق جوهريّ بين "البلقينيّ" ومناقشي الكتب المدرسيّة بـ"المناقيش"، وهو أنّ "البلقينيّ" استخرج ما ظنّه "اعتزالاً" بـ"المناقيش" من كتاب يُعلن صاحبه أنّه "معتزليّ"، أيّ ليس في الأمر افتراض واتّهام من غير دليل. أمّا جدال كثير من أصحاب "المناقيش" في جدل المناهج فينطلق من "افتراض" و"ادّعاء"، وهذه الافتراضات والادّعاءات تقسم قسمين:
القسم الأوّل: يرى في الكتب المدرسيّة القديمة حمولات "داعشيّة"، ودعوات تطرّف و"إرهاب"، فلجأ إلى استخراج هذه "الحمولات" بالمناقيش، فتصبح "الآيات القرآنيّة"، و"الأحاديث النبويّة"، و"السلوكات التدينيّة" بنفسها مظاهر "تطرّف وإرهاب وداعشيّة"! لذلك رأى تعديل الكتب أن يكون بـ"المناقيش" أيضاً؛ فكانت خلاصة كثير من التعديلات: حذف آيات، وعبارات وصور، ووضع نصوص وعبارات أخرى مكانها!
القسم الثاني: يرى في التعديلات "حرباً على الإسلام"! و"هجمة عَلمانيّة" على عقول الطلبة وكتبهم؛ فراح يبحث بـ"المناقيش" عن دلالات هذه "الحرب" و"التشويه" و"الحملة العَلمانيّة" و"الدّسّ الصهيونيّ"!
هكذا بفعل مجموعة من هذين القسمين صار جدل الكتب المدرسيّة وتعديلاتها جدلاً "مناقيشيّاً" غيّب القضايا المنهجيّة والتأسيسيّة في تقويم الكتب والمناهج! كما قام على مجموعة من "الافتراضات" و"المغالطات" المنهجيّة والواقعيّة العمليّة، منها:
- المبالغة الكبيرة في رصد أثر "الكتب المدرسيّة" في ظاهرة "التّطرّف" أو ما يُمكن تسميته بمظاهر "التديّن السلبيّ"، أو الربط المعاكس بـ"التديّن الإيجابيّ" ومظاهره، فالكتب والمناهج المدرسيّة على أهمّيتها لا تشكّل العامل الأهمّ في هذه الظواهر، بل يُمكن أن تتراجع وتتوارى كثيراً أمام عوامل أكثر تأثيراً كدور "المعلّمة والمعلّمة"، ودور "المنهاج الخفيّ" الذي يُمرّره المعلّمون في صفوفهم، وأثر الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والإعلاميّ والثقافيّ الذي يسهم في تشكيل ظاهرة "التّطرّف" من جهة أو مظاهر السلوك الإيجابيّ من جهة أخرى.
- المبالغة في ربط "التّطرّف" بـ"الدّين" و"التديّن" من جهة، وربطه بـ"النّصوص الدّينيّة" من جهة أخرى؛ فـ"التّطرّف" و"التّعصّب" ظواهر نفسيّة واجتماعيّة عابرة للأديان والاتّجاهات المعرفيّة كلّها؛ فجميع "الأديان" و"الاتّجاهات الفكريّة" تعاني من أفراد وجماعات تنتمي إليها وتتّصف بـ"التّطرّف والإرهاب"، وما يحصل غالباً أنّ التطرّف النفسيّ والاجتماعيّ هو مَن يبحث عن غطاء "فكريّ" أو "دينيّ" لتطرّفه، وعادة ما يلجأ إلى ما هو شائع ومتداول في زمن تطرّفه وتعصّبه.
ولكن لا يعني ذلك نفي مسؤوليّة هذه الأديان والاتّجاهات عن تطرّف أتباعها نفياً تامّاً، فالمطلوب هو البحث عن المكوّنات التطرفيّة فيها، أو مكوّنات "القابليّة للتّطرّف"، وهذه قضيّة أشرتُ إليها في مقالات سابقة حين تحدّثتُ عن ضرورة "الاقتصاد في اليقين والمعنى" من جهة، وضرورة "الشكّ الإيجابيّ" و"قابليّة التعدّد الصوابي ونسبيّته" من جهة أخرى؛ فـ"التّطرّف" يحتاج "يقيناً مطلقاً فائضاً"، و"إيماناً مطلقاً بصوابيّة ما يُعتقد به"، و"قناعة تامّة بتفرّد أفكارنا ومعتقداتنا بالصواب المطلق".
- المبالغة في الحساسيّة الشعوريّة والفكريّة والسلوكيّة اتجاه أيّة محاولات نقديّة وتقويميّة وتعديليّة للمفاهيم الدّينيّة والخطابات الدّينيّة، فيُنظر إليها بوصفها "حرباً على الدّين والإسلام"، و"حملة إلحاديّة على الثوابت ومكوّنات الهويّة والأمّة"! ثمّ تُستدعى هذه المبالغة في جدال المناهج والكتب فتُفسَّر كلّ التعديلات "المناقيشيّة" في أغلبها بوصفها "عَلمنة وحرباً على الإسلام"! دون مراعاة السياق المناهجيّ بعمومه، والنّظر إلى الكتب بشموليّتها وتكامليّتها.
نتيجة لهذه "الافتراضات" و"المغالطات" اتّجه الجدل حول الكتب المدرسيّة وتعديلاتها إلى الجدال "المناقيشيّ" الذي يغرق في التفاصيل والجزئيّات، ويقوم على تكلّف شديد في تحميل هذه التعديلات دلالات وتأويلات أكبر ممّا تحتمله في سياقها الظاهريّ، وصار البحث بحثاً في "البواطن" و"البواعث" و"النّيّات"، وهذا نتاج وهم شائع بيننا أنّ "البحث العميق" هو بالضرورة بحث عن "الخفيّ الكامن المتستِّر بالظاهر"، ولكن نتيجة سيطرة هذا الوهم ننتقل من "الكشف عن الخفيّ" إلى "اختراعه وادّعائه"! وهذه سمة بشريّة عامة قديمة، فيقول "ابن الجوزي" مثلاً: "زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الروانديّ، والتوحيديّ، وأبو العلاء المعريّ، وشرُّهم على الإسلام "أبو حيان"، لأنّهما صرّحا وهو مَجمجَ ولم يُصرّح". و"مجمج" تعني أخفى الكلام ولم يبيّنه.
ولو تجاوزنا "حُكم" ابن الجوزي على "ابن الروانديّ" و"أبي العلاء" بـ"الزندقة" دون إقرار أو رفض في سياق هذا المقال، فينبغي أن نتساءل: إذا كان "أبو حيّان" قد أخفى "مقاصده" ولم يبيّنها، فكيف حكم "ابنُ الجوزيّ" عليه بـ"الزندقة"، وأنّه "شرّ الزنادقة على الإسلام"؟ أم كان له "علم" بما أخفى "أبو حيّان" ومجمج؟ ولا يُشكّل "ابن الجوزيّ" استثناء في مسيرة خبرتنا المعرفيّة، فنحن اليوم نجد آلاف الأمثلة على ذلك من الاتّجاهات المختلفة.
يستطيع "الجدال المناقيشيّ" أن يحقّق نجاحاً جماهيريّاً لما له من "مغريات"، و"عوامل جذب"؛ فالنّاس عندنا تتسم عموماً بـ"الكسل" عن البحث والدّراسة والمقارنة والإنصاف، في مقابل "نشاط" لافت في تلقّي "جزئيّات" مبتورة، وأحكام مشحونة بالمواقف الشعوريّة، لذلك انحصر النقاش في أغلبه بين فئة تبحث عمّا يؤيّد موقفها السابق بـ"المناقيش" و"التفاصيل"، وفئة تردّد ما يقوله أفراد الفئة الأولى وينشرونه من "صور" و"تعليقات"، وغاب بين الفئتين مَن يناقش الكتب المدرسيّة نفسها بشموليّتها وتكامليّتها ومدى وفائها بمتطلّبات التعليم وعمليّة التعلّم الإيجابيّة البناءة الإبداعيّة.
ورغم كلّ شيء أقول: إنّ طرح أيّ قضية عامة تمسّ الجميع للنقاش العام أمر مهمّ ومفيد، وستكون نتائجه المجملة مع الزمن إيجابيّة، رغم ما يتخلّل هذا النقاش العام من سلبيّات ولاسيّما في المجتمعات التي لم تؤسّس منظومة لأخلاقيّات النقاش، وإطاراً لما يُمكن تسميته بـ"العقل العام"، ولم تترسّخ لديها أعراف الجدل العموميّ سياسيّاً وفكريّاً واجتماعيّاً ودينيّاً.
 فقد ترافقُ النقاشاتِ العامةَ في مثل هذه الظروف أعراضٌ سلبيّة مثل خوض مَن لا يعلم ما يكفي ويلزم في النقاش، ومحاولة فئات من هنا ومن هناك أن تضخّم جانباً على حساب جانب، أو تهوّن جانباً على حساب آخر، وشيوع منطق "الاتّهام" و"التخويف" و"التخوين"، وربط الأمور بعضها ببعض ربطاً توظيفيّاً مصلحيّاً من أجل استثارة أكبر قدر من المواقف الشعوريّة لا المواقف المعرفيّة.
 كلّ هذه الأعراض وغيرها لا تجعل طرح قضيّة عامة للنقاش العام أمراً سلبيّاً مرفوضاً بالنّظر إلى النتائج على المدى غير القصير، ويكفي أنّ النقاش العام يفكّك شيئاً فشيئاً منطق "التَقيّة" و"الباطنيّة" الذي يدفع أصحاب الآراء والأفكار إلى ممارسة "النّفاق"؛ فيُظهرون غير ما يبطنون، أو يخفون حقيقة آرائهم على أقلّ تقدير.
إنّ ما نشهده من طرح عام أو شبه عام لقضايا تجمع صفتين:"العموميّة والحساسيّة" سواء كانت دينيّة أم سياسيّة أم مجتمعيّة أم تربويّة أمر ضروريّ ومفيد على المدى المتوسّط والبعيد، وأظنّ أنّ تحمّل مساوئ البدايات، وأعراض "المراهقة الجداليّة" سيؤدّي إلى تأسيس ملامح "عقل عام"، و"ميثاق شرف جدليّ مجتمعيّ" يتخلّص من أكبر قدر ممكن من هذه السلبيّات والأعراض، ويخفّف من مستوى "حساسيّتها".