حدود نفوذ ماكرون في لبنان

figuur-i
figuur-i

إيشان ثارور* - (الواشنطن بوست) 2/8/2020

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

لم يكن من الممكن تفويت الرمزية الكامنة وراء رحلة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت. وجاء وصوله ليلة الاثنين في الأسبوع الماضي إلى العاصمة اللبنانية ليكون ثاني زيارة يقوم بها إلى البلد في غضون أسابيع، والتي تزامنت مع الذكرى المئوية لتشكيل البلد كمحمية استعمارية فرنسية. وقد زرع ماكرون شجرة أرز، وهي الرمز الأيقوني المرسوم في وسط العلم اللبناني، على أمل "ولادة جديدة" للبنان. وحلقت طائرات مقاتلة فرنسية فوق المدينة في تشكيل، تاركة في أذيالها خطوطاً من الدخان الأحمر والأخضر.
على الرغم من أن فرنسا تخلت عن انتدابها على لبنان في العام 1943، إلا أنها تحتفظ بنفوذ كبير في البلد. وكان ماكرون أول زعيم عالمي يصل إلى بيروت بعد يومين فقط من الانفجار الهائل الذي هز العاصمة الشهر الماضي. وما تزال المدينة تئن وتعاني من الدمار الذي أحدثه الانفجار الذي أودى بحياة أكثر من 180 شخصًا، وترك عشرات الآلاف من الأشخاص بلا مأوى، ودمر ميناءها وتسبب في أضرار تقدر قيمتها بنحو 4.6 مليار دولار -كل ذلك بينما كان البلد يصارع مسبقاً في قبضة انهيار اقتصادي، وأزمة جوع متصاعدة وتزايد في أعداد الإصابات بفيروس كورونا.
في زيارته الأولى، غمرت ماكرون حشود من المحبين واللبنانيين العاديين الغاضبين من النخب السياسية في بلدهم. وتعهد الرئيس الفرنسي بالمساعدة على إعادة لبنان للوقوف على قدميه والدفع نحو اتفاق سياسي جديد لإعادة تشكيل حكومة البلاد وتنفيذ الإصلاحات اللازمة. وقبل وصوله الأسبوع الماضي، اتفقت الفصائل القوية في البلاد على رئيس وزراء جديد -مصطفى أديب، وهو دبلوماسي يعمل كسفير للبنان في برلين- لتولي المهمة التي تبدو "سيزيفية"، والمتمثلة في توجيه دفة الحكومة الثالثة في البلاد في أقل من عام والمضي بها إلى الأمام.
قالت المشاهد الساخنة للمتظاهرين الذين اشتبكوا مع قوات الأمن مساء الثلاثاء في الأسبوع الماضي كل ما يحتاج المرء إلى معرفته حول المشاعر العامة تجاه أديب، وهو شخص غير معروف نسبياً، والذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه تكنوقراط آخر سيئ الحظ دفعت به القوى الراسخة إلى مقدمة المشهد.
يبدو ماكرون حريصاً على فعل ما يمكنه فعله. وقال في كلمة ألقاها في بيروت مساء الثلاثاء بعد يوم أمضاه في إجراء اللقاءات مع القادة السياسيين اللبنانيين: "كان ما طلبته، وما التزمَت به كل الأحزاب السياسية من دون استثناء هذا المساء هنا، هو أن لا يستغرق تشكيل هذه الحكومة أكثر من أسبوعين".
وقال ماكرون للصحفيين إن المساعدة الدولية للبنان يجب أن تكون مشروطة بالكيفية التي تتابع بها الطبقة السياسية في البلاد وتطبّق إصلاحات ذات مغزى -وإنه إذا لم يحدث تقدم جوهري في أعقاب رحلته، فإن العقوبات والمزيد من الإجراءات العقابية هي التي يمكن أن تأتي في الأعقاب. وهو يتوقع أن يعود إلى لبنان مرة أخرى في كانون الأول (ديسمبر). وقال ماكرون لمجلة "بوليتيكو أوروبا" أثناء رحلته إلى بيروت: "إنها الفرصة الأخيرة لهذا النظام. إنه رهان محفوف بالمخاطر هو الذي أقوم به. أنا مدرك لذلك… إنني أضع الشيء الوحيد الذي أملكه على الطاولة: رأسمالي السياسي".
في بيروت، قد يذهب رأس المال السياسي هذا بعيداً حقاً. وكتبت تمارا قبلاوي لـ"سي. إن. إن": "في العام 2020، يُطلَق مُسبقاً على الحكومة اللبنانية التي تعمل حاليًا اسم "حكومة قصر الصنوبر" -مسكن السفير الفرنسي في بيروت ومقر سلطة المفوضين الساميين للانتداب السابق".
لكن قدرة ماكرون على التأثير في الأحداث لا تكاد تقترب بأي حال من قدرة المبعوث الاستعماري الفرنسي منذ قرن مضى. وقال إميل حكيّم، المحلل السياسي اللبناني، لزميلتي سيوبان أوغرادي: "أدركت الطبقة السياسية أن ماكرون سيأتي بتوقع أن تكون هناك عملية تشكيل حكومة ورئيس وزراء، ولذلك استبقوه. لكنهم وضعوا (أديب) أيضًا كأمر واقع. الآن لا يمكن لماكرون أن يأتي وينازع في تعيين أديب لأن ذلك سيكون تدخلاً في شؤون دولة ذات سيادة".
وكتبت رندة سليم من معهد الشرق الأوسط: "في حين أن الرئيس ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله قدموا خدمة كلامية بالإشادة باقتراح الرئيس ماكرون، فإن احتمال تنفيذه وأن يؤدي إلى تغيير في النظام السياسي الراسخ يعادل تقريباً موافقة اللجنة الدستورية السورية التي اجتمعت برعاية الأمم المتحدة على تعديلات ستغير سلوك النظام السوري. في كلتا الحالتين، أثبت النظام السياسي أنه قادر على تحمل ومقاومة الضغوط الداخلية والخارجية من أجل التغيير".
وقالت مجلة "الإيكونوميست" في هذا الصدد: "يعترف الدبلوماسيون الفرنسيون بأن نفوذهم ضئيل. ويأمل ماكرون في أن يتمكن من سحر قادة لبنان وإقناعهم بالإصلاح، مع احتمال تقديم المساعدة إذا امتثلوا. ويشير التاريخ إلى أنهم لن يفعلوا. كما أن دعوته إلى إجراء انتخابات مبكرة قد لا تجلب التغيير أيضاً. لم تنشئ مجموعات المجتمع المدني والمتظاهرون في لبنان أحزابًا ذات مصداقية، كما أن قانون الانتخابات المعقد، الذي يخصص المقاعد على أساس الطائفة، يجعل من الصعب على الوافدين الجدد الفوز بالسلطة".
في مقابلته مع "بوليتيكو"، بدا أن ماكرون يقبل بمحدودية سلطاته. وقد تجاهل الدعوات، بما في ذلك من واشنطن، لاستغلال اللحظة لمعاقبة حزب الله؛ الفصيل الشيعي المدعوم من إيران الذي ما يزال يشكل أحد أقوى الأحزاب السياسية في البلاد. وقال: "لا تطلبوا من فرنسا أن تشن حرباً على قوة سياسية لبنانية… سيكون ذلك جهداً عبثياً ومجنوناً".
وأعاد الرئيس الفرنسي صياغة عبارة كان قد كتبها المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، وقال ماكرون لـ"بوليتيكو": "الجديد يواجه صعوبة في الظهور، والقديم يتشبث. علينا أن نجد طريقة، هذا ما أحاول أن أفعله".
وقد لا تكون الجهود التي يبذلها متعلقة بلبنان فقط، فقد أشرف ماكرون على سياسة خارجية فرنسية أكثر حزماً عبر طيف من مجالات نفوذها الاستعماري السابق. لكن مسار الكثير من بنود أجندته يبدو مضطرباً ويواجه المتاعب. وبدا أن فرنسا في عهد ماكرون وضعت الكثير من رهاناتها في الجانب الخاطئ من الحرب الأهلية الليبية. وتخوض حكومة ماكرون مواجهة جيوسياسية متوترة في شرق البحر المتوسط مع تركيا، التي تضع مزيدًا من الضغوط على حلف الناتو. وما تزال جهود فرنسا لتحقيق الاستقرار السياسي والأمن في منطقة الساحل الإفريقي متقطعة وغير مكتملة. وفي اليوم نفسه الذي كان فيه ماكرون في بيروت، أكدت قوات الأمن الفرنسية في مالي مقتل مدني خلال إحدى عملياتها ضد الجهاديين.
وفي الأثناء، أشار الخبراء إلى تراجع القيمة السياسية لبيروت بالنسبة لباريس. وكتب روبرت زاريتسكي في صفحات الرأي لصحيفة "الواشنطن بوست" الشهر الماضي: "لا يقتصر الأمر على أنه ليس لدى فرنسا روابط اقتصادية مهمة مع لبنان -حيث تحتل المرتبة السادسة في قائمة أكبر المصدرين للبلد- ولكن لبنان الآن، بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية في الخلفية الدبلوماسية، لم تعد له القيمة الاستراتيجية نفسها التي كان يتمتع بها في السابق بالنسبة لفرنسا".
وأضاف زاريتسكي الذي كتب بعد رحلة ماكرون إلى بيروت في الأسبوع الأول من آب (أغسطس): "في الوقت الحالي، يبدو الفرنسيون أقل حماسًا بكثير تجاه ماكرون من اللبنانيين. قبل زيارته للبنان بفترة وجيزة، أعرب 39 في المائة فقط من الناخبين الفرنسيين عن ثقتهم بماكرون".

*كاتب عمود في المكتب الأجنبي لصحيفة "الواشنطن بوست"، حيث يكتب العمود والنشرة الإخبارية لـ"المشهد العالمي اليوم". عمل في السابق محرراً مسؤولاً ومراسلاً لمجلة "تايم"، أولاً في هونغ كونغ ثم في نيويورك.
*نشر هذا التحليل تحت عنوان: The limits of Macron’s influence in Lebanon