حرب بلا معالم

 في بيان نسبه موقع العربية(على شبكة الانترنت) لتنظيم القاعدة في العراق نفى مسؤوليته عن قتل الدبلوماسيين العرب، وأكّد فيه أن كل المشاهد والبيانات المنسوبة للتنظيم التي يعلن فيها مسؤوليته عن هذه الأعمال غير صحيحة وملفقة وأنها"محض افتراء وكذب". وعلى الرغم أن البيان ضعيف وغير موثق ويتناقض مع كثير من البيانات المنسوبة للتنظيم ومع استراتيجيته وخطابه السياسي المعلن الذي يعتبر أن"كل مبعوث يأتي إلى بلاد الرافدين فهو ضمن مخطط الصليبيين فضلا عن كونه مرتدا.." –على حد تعبير أحد البيانات الصادرة سابقا عن التنظيم-، فعلى الرغم من ذلك إلا أن البيان الذي بثه موقع العربية يثير قضية خطيرة وحساسة وهي وجود إمكانية كبيرة لاختراق هذه التنظيمات وتلفيق البيانات المنسوبة لها، خاصة أن جملة كبيرة من هذه البيانات تبث عبر شبكة الانترنت وهي شبكة يمكن اختراقها بسهولة.

اضافة اعلان

   ولا يعجز من يتابع المنتديات والمواقع التي تتداول هذه البيانات اختلاط الحابل بالنابل وتعدد الأفكار وتعارضها وقدرة العديد على انتحال أسماء معروفة أو وهمية، وربما المثال الواضح على ذلك هو "أبو ميسرة العراقي" الذي بات الإعلام يعتبره الناطق الرسمي باسم القاعدة في العراق وتعد بياناته موضع ثقة لدى الكثيرين، وهو غير معروف ربما إلا لعدد قليل جدا مقرب من الزرقاوي، ويمكن إصدار بيان مختلق عبر أحد المنتديات وتذييله باسم الرجل وتصبح وسائل الإعلام والتحليل مرتبكة وحائرة بعضها يؤكد وبعضها ينفي فترة طويلة، وفي النهاية تبقى الأمور مصدر تخرصات وتكهنات لا يمكن الاطمئنان لها بدرجة مطلقة.

   الملاحظة السابقة تقودنا إلى كثير من الحالات الأخرى المشابهة؛ في ظل غياب مؤسسات أو قنوات واضحة للتأكد من صحة البيانات الصادرة، وهو ما لمسناه في الفترة التي أصيب فيها أبو مصعب الزرقاوي أثناء عمليات القائم الأميركية حيث تضاربت الأخبار والروايات. وهو ما حصل مؤخرا عندما أعلنت ثلاثة تنظيمات مسؤوليتها عن تفجيرات شرم الشيخ. والأخطر من ذلك هي اللعبة التي كشفت عنها المسرحية السخيفة التي رتبتها أجهزة استخبارات عربية بعد مقتل الحريري إذ أخرجت شابا مسكينا لم يمض على تدينه سوى شهور قليلة على شاشة التلفاز ليعلن مسؤوليته عن قتل الحريري وقد صاغ رجال المخابرات بيانا متناسقا مع منطق تلك الجماعات ليظهر الموضوع في سياقه الطبيعي، ثم اختفى الشاب ولم يعرف مصيره أحد بما في ذلك أهله، لكن لأن المعادلة الداخلية والإقليمية والدولية كانت متناقضة مع هذه المسرحية تم الكشف عن ضعفها وهشاشتها، إلا أنها مؤشر خطير ودليل ساطع على أن هذه الجماعات أصبحت عنوانا لحروب قذرة متبادلة بين جهات مختلفة وأجهزة أمنية تتحرك في العديد من الساحات لا تبدو مصلحتها في كثير من الأحيان في كشف مسؤوليتها عن أحداث معينة.

   ولعل المثال العراقي ونشاط الزرقاوي وجماعته هناك أكبر مثال على ذلك، ودعونا نتجاوز الآن التحليلات السطحية التي تنفي وجود الزرقاوي وجماعته أو تشكك بذلك من حيث الأصل، لكن لا يقل عن سطحية هذه التحليلات قراءات أخرى تقبل كل البيانات المنسوبة لجماعة الزرقاوي وتضخم من شخصية الرجل حتى يبدو وكأنه أسطورة حقيقية، وهذا يذكرنا بالخرافات التي كانت تنتشر بين عدد من الناس في حرب الخليج 1990 والتي جعلت من "الملائكة" داعما لوجستيا لصدام في حربه ضد الجيش الأميركي!، وليس بعيدا أن المخابرات الأميركية كانت تصدر تلك التقارير أو توزعها كجزء من عملية الحرب النفسية الخطيرة.

   نعم، الزرقاوي موجود وله جماعته الفاعلة في العراق، وهناك شهادات تؤكد ذلك، لكن بالتأكيد ليس كل ما يروج ويذكر عن الرجل صحيح، والعمليات المسلحة تقف وراءها جهات متعددة مختلفة وأطراف إقليمية لها مصالحها في العراق، وتستفيد من الغطاء الذي توفره بيانات جماعة الزرقاوي، وبالضرورة هناك كثير من العمليات النوعية الخطيرة وحالات معترف بها أميركيا وعراقيا في اختراق الشرطة العراقية لا تملك جماعة الزرقاوي القيام بها أو التخطيط لها، وهو ما يؤكد أن الأمور باتت مختلطة إلى درجة كبيرة.

   من السهولة بمكان تفسير تضارب البيانات والتصريحات الصادرة عن الجماعات المرتبطة بالقاعدة على أنها جزء من عملية التمويه والتستر وخلط الأوراق -كما يحب بعض أنصار القاعدة تفسير ذلك-، ومن السهولة أيضا اعتبار البيان الذي بثه موقع العربية وبيانات أخرى نوعا جديدا من الحروب الإعلامية والالكترونية تسمى"حروب الشبكات" لكن الحقيقة الأهم والأخطر أن الجماعات الجهادية المنتشرة هنا وهناك لا يوجد لها أية معالم أو واجهات يمكن أن نستند إليها للتأكد من هويتها، فقد باتت أقرب إلى "مغارة الأشباح" التي تشتبك فيها الوقائع بالخيال بالألغاز والخدع ويسود فيها عامل الخوف والرعب بين الخصوم، وبالتأكيد أن هناك لاعبين مستفيدين من وجود "مغارة الأشباح" ولو في المرحلة الحالية على الأقل!.

[email protected]