"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا.."

د. محمد المجالي*

لم يكن علماؤنا مبالغين حين جعلوا موضوع الولاء والبراء من مستلزمات توحيد الألوهية؛ بأن نوحّد الله بأفعالنا، فلا نعبد إلا الله، ولا نخشى إلا الله، ولا نتوكل إلا على الله، ولا نحب إلا في الله، ولا نبغض إلا لله، ولا نوالي إلا في الله، فالله ولينا ورسوله والمؤمنون.اضافة اعلان
حين نعتقد هذا، يكون انتماؤنا خالصا لله. وهذه هي العبودية الحقيقية لله تعالى، التي تحقق الغاية من الخلق: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، الآية 56). والمسلم مطالب دوما بأن يجدد إيمانه ونيته، ويتفقد علاقته بربه سبحانه، ويقيس قربه منه تعالى؛ فالحياة مشتِّتة، ومتطلباتها مرهقة، وواجباتها كثيرة متشعبة، وأعداء الإنسان، من نفس وشيطان وأعوان سوء، كثيرون، وربما كثيرون ملتهون بعيشهم. ومع هذا كله، تبقى العلاقة بالله تعالى هي الأصل؛ عبادة وحبا والتزاما بمنهجه.
إن أكثر ما أستهجنه هو هذا الدمج بين الخير والشر (تعمدا) في نفس الإنسان؛ فلو وقع الشر من اقتراف لذنب أو تقصير في حق خطأ أو من تكاسل، فهذا أمر عادي، إذ إن كل ابن آدم خطّاء؛ أما أن يتعمد أحدنا أن يجمع الأضداد في نفسه، فهذه مهزلة، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا، وصاحب هذه النفس معرَّض للخطر الجسيم، فمن يضمن له استمراره على الخير الموجود فيه؟
عجيب أن نرى الشخص يصلي ويصوم، لكنه يأكل الربا، أو يسرق أو يكذب أو يزني! وعجيب أن يكون مصليا متعبدا، وفي الوقت نفسه يوالي أعداء الله؛ فيحب اليهود -مثلا- ويكره المتدينين لأتفه الأسباب. وهذا أمر غدا شائعا بين كثير من الناس، حين لعبت آلة الإعلام دورها في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وغدا عدد كبير يكره الملتزمين، خاصة حين يصفهم الإعلام بـ"الإسلاميين" والمتشددين وأصحاب توجه الإسلام السياسي!
لا يمكن أن يكون المسلم مسلما صادقا إلا إذا والى في الله، وأحب في الله، وأبغض في الله، وتبرأ من آخرين في الله؛ فالمحرّك لمثل هذه الأمور هو الدين والعقيدة لا الهوى والرأي والمزاج، فحياة المسلم كلها لله: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" (الأنعام، الآيتان 162 و163).
وإذا نظرنا في نماذج من الأنبياء والصحابة في موضوع الولاء الخالص لله، فهو الذي رفع شأنهم أكثر من غيرهم، فها هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام يتبرأ مما عليه قومه، وفي حق والده قال الله عنه: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ" (التوبة، الآية 14). وفي قول الله تعالى: "لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (المجادلة، الآية 22). فقد ذكر بعض العلماء عدة روايات لسبب النزول، منهم من ذكرها في شأن أبي بكر الصديق مع أبيه، ومنهم من ذكرها في شأن أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قتل أباه في غزوة أُحد، وقيل في شأن مصعب بن عمير مع أخيه في أُحد أيضا، وقيل في شأن عمر بن الخطاب مع أخيه أيضا، رضي الله عنهم أجمعين؛ فالذي دفعهم إلى هذا هو ولاؤهم الخالص لله ورسوله والمؤمنين.
لقد جاء ذكر الولاء وهذه الآية على وجه التحديد في سورة المائدة، وفيها الحديث عن التحاكم لمنهج الله، بعد أن بين سبحانه حال اليهود والنصارى ومطالبتهم بتحكيم كتبهم، إلى أن جاء السياق للحديث عن القرآن المهيمن على الكتب السابقة، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتحكيمه. وبعدها جاء الحديث عن الولاء الذي ينبغي أن يكون لله ورسوله والمؤمنين، لا لليهود والنصارى. وبعد ذلك كان الحديث عن الردة. وكأن السياق يتدرج هكذا في أن عدم تحكيم الشرع سيؤدي إلى تشتيت الولاء، ومن ثم للردة، فلا بد من التأكيد على الولاء بأن يكون خالصا لله ورسوله والمؤمنين، وليس أي مؤمنين، إنما "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة، الآية 55). والأصح أن "وهم راكعون" ليس حالا لإيتاء الزكاة، بل وصفا للمؤمنين بأن حالهم هو الخضوع التام لهذا الدين؛ فهم ملتزمون بفروعه كالتزامهم بأصوله، لامس الإيمان شغاف قلوبهم، بل ملئوا إيمانا وحبا لله ورسوله والمؤمنين.
لا يمكن أن أتصور شخصا يزعم الإيمان ويعشق الفسق والفجور، ولا يمكن أن أتخيل شخصا مؤمنا ويحارب الفكر الإسلامي والمنهج الإسلامي؛ قد أختلف مع بعض الجماعات الإسلامية، والشخصيات الإسلامية، ولكن يبقى حق هؤلاء في أنهم ما قاموا إلا لنصرة منهج الله، وما ضحوا وما بذلوا إلا من أجل منهج الله. ومن يمشي معرَّض للوقوع، وليس منا أحد معصوم. فهؤلاء ينبغي احترامهم وتأييدهم والدعاء لهم، وفي الوقت نفسه تصويب شأنهم والنصح لهم، أما موضوع كرههم وعداوتهم وتشويههم، فهذا لا يصدر إلا عن جاهل أو حاقد.
لقد نجح أعداؤنا في إثارة النزاعات بيننا، وإحياء العصبيات. وعملت آلة الإعلام على التشويه لهذا الدين وأتباعه. ويبقى الرهان على العقلاء أن يحكّموا فكرهم وعقولهم. وحين اشتدت أزمة الاتهام للرسول صلى الله عليه وسلم ووصلت إلى الجنون، أنزل الله على رسوله: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" (سبأ، الآية 46)؛ دعوة لهؤلاء أن يقوموا من أجل الله، بعيدا عن هوى وأي تأثير آخر، ويسأل بعضهم بعضا، ويتفكروا في ذات أنفسهم،، هل محمد مجنون؟! وهم يعرفون هذا في قرارة أنفسهم أنه نذير لهم، صادق أمين، صلى الله عليه وسلم.
ولا أقول إن أفراد اليوم وجماعاتهم مثل محمد صلى الله عليه وسلم، بل قاموا لنصرة دين محمد، وهم بشر يخطئون ويصيبون، ومهمتهم ليست بسيطة مع هذا الطغيان العالمي والتفنن في حرب الإسلام وتشويهه والتشكيك فيه، فلنحسن الظن، ونحسن النصح، ونحسن الرؤية والفكر، ولنتذكر أن جميع المسلمين مسؤولون عن هذا الدين، فماذا قدمنا، وماذا أعددنا للإجابة حين يسألنا الله عن ذلك؟ ونصيحة لأهل الفكر الإسلامي أيضا، بأن يكونوا يدا واحدة، أو على الأقل أن يحترم بعضهم بعضا ويقدموا حسن الظن ولا يتنازعوا، وإلا فشلوا وذهبت ريحهم.



*أكاديمي أردني