القامة والقيمة!

د.لانا مامكغ أنهتْ الصّحفيّةُ الشّابّة مقابلتَها معه بالقول: “ سُعدتُ جدّاً بما عرفتُه عن حضرتكم، مشوار حياة يدعو للفخر فعلاً، قامةٌ وقيمةٌ وقدوةٌ رائعة، لماذا لا تُفكّرُ، سيّدي، بكتابة سيرتك الذّاتيّة لتوثيقها كهديّة ثمينةٍ منك للأجيال الجديدة؟ “ ثم اقتربت من منضدة أنيقةٍ لتضيفَ وهي تتأمّلُ إحدى الصّور الفوتوغرافية: “ ما شاء الله، ما أجملَ أسرتك، لابدّ أنَّ زوجتك وأبناءك فخورون جدّاً بك!” مضت أيّامٌ وهو يُفكّر في اقتراحها، نعم، ماذا لو؟ فهو يُمثّل قصّةَ نجاح فريدة، ومن كتبوا سيرَهم الذّاتية ليسوا بأفضلَ منه… عليه أن يتفرّغ فقط فيضعَ خطّةً لتنفيذ العمل، وفعلاً، جلس ليُحدِّدَ المفاصلَ الرّئيسة في حياته، بدءاً من الطّفولة حتى الشّباب والنّضوج، فالدّخولِ في مرحلة التّقاعد التي يعيشها هذه الأيّام، مراعياً تكاملية العناصر بين الموضوعي، والذّاتي … فكان لا بدّ من التوقّف عند حياته الخاصّة، والكيفيةِ التي أدارَ فيها العلاقةَ مع أسرته الصّغيرة! هنا، ألقى القلمَ جانباً، وسرح… يذكرُ أنّه ارتبطَ بصبيّةٍ مهذّبةٍ طيّبة، لا يعلم حتى الآن إلى أيّ حدٍّ خذلها، إذ بدأ الأمرُ لمّا رُزق بابنته الكبرى، حين لم يُقصّر يومها في إشعار زوجته بالخذلان، وهو يعلم جيّداً أن لا ذنب لها، لتكبرَ الطّفلةُ دون أن يبذلَ أيّ جهدٍ في التّقرّب منها، إذ اكتفى بتلبية شؤونها الضّرورية، لكن، دونَ الدّفء المطلوب، ودون الحميميّة والحنوّ المتوقّع بين أبٍ وابنته! ثمَّ تنفّسَ الصّعداء حين رُزق بالذّكر الأوّل، ثمَّ الثّاني بعد حين، فاطمأنَّ وفرِح، واحتفى بابنه البكر، وفرحتِه الأولى، كما كان يردّد، فقد جاء من يُخلّدُ اسمَه، ويحمي ثروتَه، ويتابع إنجازاتِه، وعليه، أسبغَ على الولدِ اهتماماً استثنائيّاً، وقرّبه منه، وكيف لا، وهو امتداده الحقيقي على الأرض… ثمَّ ليكتشفَ بعد حين أنَّ توقّعاتِه لم تكن في مكانها، وأنّ الشّابَ قرّرَ أن يشقَّ لنفسه طريقاً مختلفاً في الدّراسة والمهنة، وأسلوب الحياة، هنا، تذكّرَ بأسى القسوةَ والغلظة والفظاظة التي عامله بها، وكيف مارسَ على ابنه دورَ الأب المقهور الحزين المصدوم بعقوق ولده! أمّا الثّاني، فقد كان يراقبُ الأمر بذكاء، محاولاً سدَّ الفراغ الذي أحدثه ذلك التّمرّدُ من الشّقيق، فأتقن فنونَ التّقرّب من أبيه بوسائلَ شتّى، مدّعيّاً أنّه النّسخةَ الأصليّة المنتظرةَ منه! هنا، تذكّر هو كيف راق له الحال، وكيف صدّق ما كان يسمع، لينتهيَ الأمرُ بأن استنزف الشّابُ منه أموالاً طائلة، إمّا في مشاريعَ وهميّة… أو في أخرى فاشلة! عادَ وأمسكَ القلمَ محاولاً الكتابة عن أمر أبنائه بأسلوبٍ فيه بعضُ المراوغة، فلم يستطع، كانا وجعَه الذي لا يهدأ… أمّا ابنته، فهي جرحُه الغائر، والنّدبةُ التي لن تُمحى من ذاكرته وروحه، إذ شهد بأمِّ عينيه تداعياتِ الطّريقةِ التي عاملها بها في طفولتها وشبابها، وكيف انتهى ما حرمها منه من محبّة، بأن راحت تبحثُ عنها عند رجلٍ في عمره قرّرت الارتباط به، لينتهيَ زواجُها بالطّلاق السّريع! وماذا عن شريكة حياته الهادئة النّبيلة؟ هل كان زوجاً وفيّاً لها طوال الوقت… سؤالٌ آلمه أيضاً، فقد كانت تعلم الكثيرَ عن مغامراته، لكن لم تفتحْ معه الموضوع أبداً، الأمرَ الذي ما يزال يزيدُ من أوجاعه! قام ووقف عند النّافذة لاهثاً كأنّما يبحثُ عن نسمةِ هواء، حتى لم يشعر بلسعة البرودة في الأجواء ليقول: “ أيُّ سيرة ذاتيّة تلك التي سأقدّمها للأجيال؟ أي كمٍّ من الزّيف والادّعاء والكذب يُفترض أن تحوي؟ حياتي أشبه بمسلسلٍ دراميّ نمطيٍّ ردىء… هذا أنا، قامةٌ سياسيّةٌ اقتصاديةٌ مرموقة، كما يقولون، وصاحبُ ثروةٍ وسلطة، خبيرٌ فذٌّ في سياسات الدّول، وفاشلٌ في السّياسة الأسريّة… أفهم في الاقتصاد والحسابات، لكنّي لم أُجرِ يوماً حساباتي الضّرورية داخل أسرتي! “ ليضيف بحزن: “ نعم، يمكن أن أكتبَ السّيرة فأبدو العبقريَّ العصاميَّ الشّجاع، والقيادي الفذ، والمربّيَّ البارع، فأخدعَ النّاس… لكن لستُ على استعدادٍ لخداع نفسي أبداً فيما تبقّى لي من عُمْر!”

المقال السابق للكاتبة

للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا 

اضافة اعلان