خمسون عاماً على فردان

أحمد جميل عزم- في الساعات الأخيرة من يوم التاسع من نيسان (إبريل) 1973، وبدايات العاشر منه، تسللت مجموعة إسرائيلية تعدادها بالعشرات من سفينة في البحر قبالة بيروت لتضرب مجموعة أهداف، أبرزها ثلاث قيادات للثورة الفلسطينية، هم «أبو يوسف والكمالين: محمد يوسف النجّار، كمال ناصر، وكمال عدوان»، ومقرات للثورة أهمها موقع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أحد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الأساسية، ومبنى لتصنيع المتفجرات. بجانب القادة الثلاثة الكبار، وقع عددٌ من المقاتلين الشهداء في الصفوف الثورة الفلسطينية من أكثر من جنسية، لا بد من تسجيل سيرتهم أيضاً. تحركت مجموعة الاغتيال وعددها نحو 15 شخصا، انقسمت إلى ثلاث مجموعات لاغتيال القادة في بيوتهم بين عائلاتهم، في مبنيين متقابلين، في شارع فردان، يقودها من الشارع إيهودا باراك المتنكر بزي امرأة، وهو ما يزال على قيد الحياة، وفاعل في السياسة الإسرائيلية، وكان ينسق لاسلكياً مع القيادة الإسرائيلية الموجودة في سفينة في البحر قبالة بيروت. كان كمال عدوان هو «قائد الغربي»، والغربي هو الجناح الأجمل والأعظم في الثورة الفلسطينية، المسؤول عن العمل في الأرض المحتلة، كل من قاده استشهد بيد المخابرات الإسرائيلية، أو عملائهم. رتّب مهندس البترول كمال عدوان، الغربي ضمن ثلاثة أقسام، الأول يسمى «البورد» (board)، (أي مجلس الإدارة)، وتكوّن من مجموعة من أشخاص أصحاب قدرات فكرية وسياسية، ومنهم، د. راجي مصلح، ومنير شفيق، وأبو نائل، ومرعي عبد الرحمن (أبو فارس)، وكان معهم أشخاص استشهدوا لاحقاً مثل د. حنا ميخائيل، الذي فقدت آثاره في البحر، في مهمة نضالية، ومحمد بحيص (أبو حسن قاسم)، وهذا البورد كان على صلة يومية عضوية، بل على مدار الساعة، مع مركز التخطيط، بقيادة د. نبيل شعث، ومن مهامه تقديم توجيه سياسي للأرض المحتلة، عبر الإذاعات، وعبر الاتصال الشخصي مع شخصيات الأرض المحتلة، الذين يأتون بمبادرتهم أو بدعوة من كمال إلى بيروت، عبر دمشق، ومثلا يذهب د. راجي لاصطحاب أحدهم من دمشق بسيارته فولكسفاجن الصغيرة (المشهورة باسم الخنفساء)،. وكان الشق الثاني من الغربي، هو لجان المناطق، حيث لكل منطقة في فلسطين لجنة تدير النضال اليومي والمواجهة، وهؤلاء قد يكونون بصلة مع المستويات السياسية، ورُسُل، بقدر ما كانوا يقودون العمل المقاوم على الأرض، ومثلا يخبرني عبدالإله الأتيرة، الذي كان يتركز نشاطه في لجنة نابلس، كيف كان من بين طلبات كمال الالتقاء ببعض التربويين من مدارس ثانوية أهلية قديمة، بغرض تنسيق تحولها إلى جامعات، على اعتبار أن الجامعة حاضنة ثورية، ستقدم جيل الفدائيين القادم. والمستوى الثالث، وهو غير معروف كثيراً هو إعداد كمال لأشخاص كثر بتدريب فردي للعمل النوعي العسكري، هؤلاء من شباب الأرض المحتلة عام 1948 الذين يدرسون في الخارج، أو ممن معهم جنسيات أجنبية، يتم تدريبهم في مزارع في دمشق بشكل فردي لا يرون بعضهم، وبأعداد قليلة. لم يتسن لكمال البقاء طويلاً لتتضح نتائج خططه على الأرض فقد اغتيل مبكراً، ولم يمض على توليه الغربي سوى نحو عام ونصف. كان أبو يوسف عضواً أساسيّاً في اللجنة المركزية لحركة فتح، وفي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومسؤول جهاز أمن الثورة، كان عاكفاً حين اغتياله على هدف مركزي هو التأكد أن تكون العمليات النوعية داخل فلسطين، وليس خارجها، وأن يأتي المناضلون لفلسطين وحدودها من كل العالم. وكان يعكف على تشكيل جهاز أمني لتنفيذ عمليات خاصة داخل إسرائيل. أمّا كمال ناصر، فقد كان استلم للتو مسؤولية تحرير المجلة المركزية للثورة «فلسطين الثورة»، وكان الكاتب ذو الفكر القومي العروبي، البعثي، ابن قرية بيرزيت، ويسكن وحده في طابق يعلو شقة عدوان في ذات البناية، ومقابلهم أبو يوسف، وكان من أول من رثاهم في المجلة، بعد توليه إيّاها الشهيد غسان كنفاني. كان هؤلاء الشهداء ضمن مفهوم واضح في ذهن الثورة حينها، ويتم تمريره لداخل الوطن عبر «الغربي»، وهي فكرة «الثورة الدائمة»، التي فيها التربية والتعليم والجامعات، والمسرح والفن، والاقتصاد، ونشاطات حماية الطبيعة، والعمل التطوعي، التي تشكل جميعها القاعدة الصلبة للبندقية والنضال المسلح. المقال السابق للكاتب من رائد البرغوثي إلى وليد دقة: “لا باب”؟اضافة اعلان