"لسة عايشة": إدانة مجتمع الأحكام المسبقة وانتصار الرغبة بالعيش

ملصق فيلم المخرجة أسماء بسيسو "لسة عايشة" - (من المصدر)
ملصق فيلم المخرجة أسماء بسيسو "لسة عايشة" - (من المصدر)

إسراء الردايدة

عمان- على الرغم من ظروفها الصعبة ووحدتها، لكنها حققت ذاتها وانتصرت لنفسها وأنوثتها، فغدت شابة قوية رغم استضعاف المجتمع لها، وبين ظلم المحيط إلا أن بصيص أمل انتشلها من كل شيء لتحلق بحثا عن نفسها.
فهي عائشة، التي روت قصتها المخرجة الأردنية أسماء بسيسو في فيلم "لسة عايشة" ذي جرأة لا تخلو من الإنسانية ومحاكمة لازدواجية المجتمع.
وفي افتتاحية عروض أيام مهرجان شيفيلد التي انطلقت أول من أمس بالفيلم الوثائقي "لسة عايشة"، في أول عرض له بالتعاون مع الهيئة الملكية للأفلام والمجلس الثقافي البريطاني، تلتقط بسيسو معاناة وصمود عائشة ذات الـ27 عاما؛ حيث واجهت الحياة بعد أن تخلى والدها عنها وعاشت في ملجأ للأيتام قبل أن تتركه حتى قبل بلوغ الـ18 من عمرها.
الأبعاد النفسية التي مرت بها عائشة التي تقف أمام كاميرا بسيسو بكل جرأة وحرية، تعبر عن نفسها بثقة وبألم أيضا مما عانته، ولكنها أنجزت دراستها ونالت شهادة في علم النفس، وفي الوقت نفسه تعكس ذلك الألم الذي تحمله داخلها لفقدانها معنى الأمان والحضن الحقيقي الذي يمنح للطفل.
على مدى ست سنوات صورت بسيسو فيلمها، بدءا من الفترة التي غادرت فيها عائشة دار الأيتام وعيشها في شقة مع خمس فتيات من الدار، والطريقة التي تتحدث فيها عن سوء المعاملة التي يلقاها بعض الأيتام في دور الرعاية من قبل المشرفين، والإيذاء النفسي والجسدي، الذي انعكس نفسيا عليهم وتركهم في حالة صعبة تولد مشاكل سلوكية بين عزلة وفقدان للثقة بالنفس وغيرها.
لكن بصيص الأمل في حياة عائشة كان من خلال الأم جمانة قعوار التي منحتها ثقة بالنفس من خلال كلمات لطيفة قيلت لها، وهي في التاسعة من عمرها، وهي أنها ذكية، ما منحها دافعا لتكون مثلها اختصاصية نفسية لتكبر وتساعد الأطفال الذين تخلى عنهم أهلهم وغير المحظوظين ليتجاوزوا المحن.
وعلى الرغم من الجانب الإنساني الذي تعكسه عائشة من خلال حديثها أمام الكاميرا التي تغوص في تفاصيل حياتها وكأنها صديقة لها، ما يعكس تلك العلاقة التي بنتها المخرجة مع بطلة فيلمها، وهو جزء من بناء الفيلم الوثائقي الذي يقول الحقيقة والتوصل إليها عبر خلق معانيها بنسيج الفيلم وطرحه للوقائع بكل عناصره، والتسلل إليها ما يساعد المشاهد على إدراك أن ما يشاهده هو صورة عن الواقع وليس الواقع نفسه، كونه يقدم رؤية المخرج.
وما أرادته بسيسو هو إدانة مجتمع ازدواجي وقساوته وسلطته في إطلاق الأحكام المسبقة والإدانة بدون النظر في الحالة وتفاصيلها، فضلا عن الذكورية والتمييز الجندري، وتلك النظرة السلبية لفئة عانت الأمرين وهي هنا الأيتام ومن يعيش في الملاجئ الذين يتحملون ظلم الأهل وتخليهم عنهم وأيضا ظلم المجتمع.
وعبر الواقعية التي انتهجتها بسيسو في قصة عائشة، فهي منحتها بعدا أعمق بتسليط الضوء ومرافقتها لأدق تفاصيل حياتها بعد ترك الدار، وتلك الثقة التي تحمل ألما عميقا، رغم ما تظهره من قوة، لتثبت نفسها وتجعل من المجتمع يتقبلها، وخجلها من أن تقول حقيقة نشأتها، لكنها لم تعد تحتمل، فروت قصتها بدون أن تلقي بالا، وتقدمه بشجاعة معلنة تمردها على مفاهيمه البالية.
عائشة هي جزء من شريحة واسعة من الفتيات اللواتي يخضن هذه المصاعب في حياتهن، التي فرضت عليهن بدون ذنب، لكنها أيضا تمثل نضجا ووعيا في مجتمع لا يحق له إدانتها، فهي ضحيته وليست مجرمة، وقدرتها وتصميمها على العيش والتمتع بكل حقوقها هو ما أنجزته، في نضال لتسهل حياة أخريات معها ومنحهن صوتا سهلته لها أيضا المخرحة أسماء بسيسو.
وعائشة اليوم تقف أمام الجميع وتحمل شهادة في يدها، وعلى اتصال مع عائلتها، التي تخلت عنها بصدر رحب وحب لهم، لكن باستقلالية في الوقت نفسه عن كل شيء، سوى نفسها التي بنتها كما تريد، بشموخ وعزة وكبرياء بحثا عن مستقبل ومجتمع أفضل لا يدين من لا ذنب لهم.
وبين لقطات قريبة تلتقط ملامح وجه عائشة التي تغيرت كثيرا منذ بداية الفيلم حتى نهايته، ولقطات متوسطة وطويلة، كلها دققت في تفاصيل حياتها، في علاقاتها ومحيطها وسط تركيز واسع على الشخصية الرئيسية التي انطلقت بدون قيد وبعفوية أمام الكاميرا وكأنها صديقتها، ما يبرز تلك العلاقة القائمة بينهما واتساقها المنتظم.

اضافة اعلان

[email protected]